إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأحد، 7 فبراير 2016

حياة ما بعد التقاعد،

حياة ما بعد التقاعد...


من جوانب السعادة،،١،،


يحكى أن رجلين قد تقاعدا من عملهما بعد قضاء عمر العمل الإفتراضي، فأخذ كل منهما مستحقاته وأجوره ليعيش ما تبقى له من عمر. أخذ كل منهما يفكر في ماذا وكيف سيقضي باقي عمره مزاولا حياته الدنيوية، سواء في كسب مزيدا من المال أم في الإسترخاء أم في شيء أخر. ولا يخفى على أحد، أن الإنسان حينما يتقاعد من عمله، يكون قد أفنى جل عمره في العمل، ولم يتبق له إلا القليل وذلك بمشيئة الله، فيكون هو في عداد الذين يراقبون تعداد أوقاتهم ليقيس المتبقي من عمره مخمنا في عدد السنوات الباقية، إن كان لا يشعر بسعادة في هذه الفترة، وما أكثرهم! وأما السعداء فلا يحسبون للأيام حساب إلا اللهم إن كانت تنتظرهم جائزة يبنون بها سعادتهم ، وهولاء الذين خططوا للسباحة في فضاءات السعادة.
سالم بعد تفكيره الذي خمس وسدس به رأى أن يستثمر المال الذي كسبه من مستحقاته في تجارة تنميه حتى يأتيه الأجل ليصير المال ورثة لأبنائه من بعده. إشترى محلا لبيع مواد البناء واشترى كل كمالياته المطلوبة لكمال المحل، وبدأ في حياته الجديدة يبع الأخشاب و الحديد والإسمنت وماشابهها. كل صباح يخرج سالم من بيته متجها لمحله في صناعية سناو ليفتحه عند الساعة الثامنة، ظنا منه أنه لا جدوى من فتحه قبل ذلك لأن الزبون عادة مجيئهم بعد ذاك الوقت. يقابل سالم كل يوم عشرات من الناس ، مقاولين، عمال، واخرين، ومن جنسيات مختلفة وأطوار مختلفة وميولات متباينة، ومزاجات رائقة وغير ذلك. كل هذا وذاك يواجهه سالم كل يوم في صناعية سناو ، منهم من يجادل في الأسعار ومنهم من ينتظر سلعته ومنهم من يشتكي من التخلف في الإستلام ، ومنهم يذكر نقصا لعدد من الأشياء قد حصل حين إستلامه لها. يعود سالم لبيته كل مساء منهكا كارها عمله الجديد وتجارته التي قرر إتيانها جراء ما يواجهه كل نهار من الوضع الذي لا يكاد يطيقه وهو في كبره، ليزداد بياض شعره وتجعد جلده ، وإصابته بالضغط. إحتار سالم ومكث يفكر ذات ليلة بين ما يحدث له الأن وبين تلك الأيام التي كان يطالب فيها بسرعان الحصول على التقاعد، ليجد نفسه أنه ينتحر شيئا فشيئا لأختياره عملا حادا يزيد من إرهاقه ، وذلك بتعامله مع أنواع مختلفة من البشر وطبائع متباينه كلهم يجري خلف زيادة ماله ، ويبني تجارته ، فمنهم الصالح ومنهم الطالح ومنهم الأمين ومنهم الخائن واللص ، ومنهم البخيل ومنهم الكريم ومنهم اللين ومنهم الجاف، بعد أن كان يحاول الهروب من ضيق العمل بحصوله على التقاعد. كل هذا وذاك من الأعمال التي يعملها حاليا بحاجة لشخص ما زال في ريعان شبابه لكي يستطيع التعامل مع الجميع ، لكن سالم لم يستطع أن يتأقلم مع هذا الوضع حتى أدرك أنه كان يدير عجلة حياته ويدفعها بقوة لتصل لنهايتها، فتوقف منهيا عمله ذاك ببيع المحل متحسفا على  تلك الأيام التي يعدها أنها ضاعت.كان يخطط للتقاعد والإبتعاد عن صخب العمل والرزوح تحت وطأة الإنقياد وتأطير الحياة بالإنضباط مع قانون العمل. لكن التفكير في المادة وجعلها شيئا أساسيا في سير الحياة يجعل الإنسان لا يبصر الأشياء جيدا ، بل يبصرها على غير حقيقتها.
يؤمن حمد أن الرزق مكتوب، ولن يأخذ الواحد من بني البشر أكثر من ما كتب له من رزقه، وأنه سيفنى يوما لا محالة. كان يملك مزرعة مترامية الأطراف، لكنها تفتقر إلى العمار ، فجل مساحتها بيضاء لم تنبش ولم تحرث، والسبب يرجع إلى إشتغال حمد في وظيفته التي أخذت منه الكثير من عمره. قرر أن يقضي باقي عمره بعد تقاعده مشتغلا في مزرعته لينفق فيها ما تحتاج له. لم يكن توجه حمد أقتصادي بالدرجة الأولى بل كان يريد أن يعمر مزرعته ليشعر بالسعادة لأنه أمن أن سعادته موجودة في المزرعة، فما عليه إلا أن يحرث ويغرس ويروي ليقطف يانع الثمر، ولا يمنع أن يحصل على مردود إقتصادي منها، ليكون حاملا نفقتها على أقل تقدير. بما أن حمد فلاح ومثقف في نفس الوقت، فإنه قد استعان بخبرته في تعمير المزرعة لجعلها مزرعة تحوي الكثير من الأشجار، وحظائر الحيوانات والطيور، وجعلها حديقة في الوقت نفسه، حتى يشعر وهو بداخلها بشعور الفتية العاشقين الذين تتراقص بين ضلوعهم أزهار الجمال وورود الروعة. قضى حمد وقت يومه في المزرعة متنقلا بين الأشجار ومشتغلا بها، يرويها من دماء قلبه، لتثمر له سعادة يقطفها كل صباح ومساء من عناقيدها. ساعة يكون بين النخيل وأخرى بين الحمضيات وثانية بين الحشائش ، و أخرى بين الورود والأزهار، وأحيانا يتردد على حظائر الطيور والماشية. يتنعم بمختلف النعم التي تزيل عنه كل هم وألم ، تشعره هذه النعم وكأنه طفل في جسد كهل. يقابل كل يوم مخلوقات لا تعرف معنى تقلبات المزاج ولا التعامل البغيص مع الإنسان، بل مخلوقات تعطي أكثر من ما تأخذ، وكل أعطياتها طيبة، إما مذاق طيب ، أو روائح زكية ، أو مناظر تسر الأحداق ، فتبهج الأنفس مما تحس وتشعر بكل جوارحها . داوم على هذه الحال باقي عمره راحلا في الصباح الباكر إلى مزرعته ومرتحلا عنها عند العتمة إلى بيته لينام بين أترابه ملأ جفنيه، كان يداوم على النهوض باكرا في كل يوم ولا ينام إلا في عتمة الليل، ليعيش أكبر قدر في اليوم الواحد ، حتى لا تفوته لحظة واحده، فالنوم هو قتل للحياة.
هكذا هي الحياة، يتنقل فيها الإنسان من مكان لأخر ومن وضع لأخر ، باحثا عن ما يفرحه ويسعده، وكلنا نختلف عن بعضنا في البحث عن السعادة وكيف نبحثها وفيماذا سنجدها. فسالم إرتأى أن راحته ستكون في انشغاله بعد التقاعد في بناء ماله وزيادته ل أللا يكون عالة على أحد يوما ، لكن المصاعب المشوكة سرعان ما أرهقته وأتعبته ليتجعد جلده أكثر مما تجعد، ويبيض شعره أكثر مما هو عليه، ليغضب كثيرا ويتألم أكثر، ليخرج من التعب إلى التعب ومن الألم إلى الألم لينام ليلته في أحضان التعب إلى قاع جفنيه. أما حمد وجد سعادته في إحتضان مزرعته ليشكلها كيفما يشاء ، ليزرع في ذاك الرواق وردة زاكية تبهج نفسه وتلذ أنفه، وفي ذاك الرواق نخلة مثمرة طيبة ، وذاك الرواق خمائل الحمضيات لتغني في فضاءاتها عصفورة حبلى بالشوق والإشتياق ، وبالحب سلوى، ليهنأ في صباحه كما يهنأ في مسائه.فالسعادة عصفورة تزقزق في كل فضاء فعلينا فقط أن نتعلم كيف نستمع لها، ووردة تزهر في كل فناء ولنبحث عنها في فناءاتها.



هناك تعليقان (2):