إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، 2 مارس 2016

الإختلاف في الفكر



 


الإختلاف سمة تمشي في الأرض منذ خلقت، وستظل كما هي إلى أن يبعث الله الأرض ومن عليها. واتسم الإختلاف في كل شيء في الحياة لتتزن كفتا العقل والعقل ، الروح والروح، الجسد والجسد، بل الجوارح كلها والجوارح، ليختلف الإنسان مع الإنسان نفسه في كثير من الإشياء في الحياة الدنيا، حتى الغيبيات التي لا يدركها الإنسان ولم يخبر عنها سيظل يختلف فيها مع بني جنسه. ليكون الإختلاف مخلوقا يمشي بين بني البشر بكل جوانبه وأنواعه. وحينما تغلغل الإختلاف في الحياة، ظلت تتفتق بالتغير، وليولد الجديد من رحم القديم، والمتغير من رحم المعهود، حتى تنبت الأرض نباتات لم تكن معهودة قبلا، فآتت ثمارها، وتجدد الماء بعد الركود، وهبت نسائم بتياراتها متجددة في عطرها وملمسها ودفئها، لتثرى الحياة بالكم والكيف.

ومازال الإختلاف كما هو يتقفز من زمن لأخر ليملأ كل الأمكنة وكل النفوس لتحركه الجوارح فيعصف محركا الرواكد والثوابت، إما بتجديدها أو بقتلها حتى لا تتنفس أخرى. فالأختلاف الذي تدفعه جارحة العقل، منبثقا من أساس راسخ ورؤية صافية نقية، حتما سيكون إختلافا مثريا، شريطة أن يكون الطرفان على منهاج البحث عن الحقيقة ومحاولة إدراكها بكل السبل النقية، لتهيج بحار العقول التي ولدت وترعرعت على فكرة واحدة لم تنشط العقول على إدراك حقيقتها وتقصيها إلا حينما ولد الإختلاف بينها وحولها. فتتحاور الأطراف المختلفة في ذات الفكرة تحاورا في طاولة العقل وفي جو العقل، والهدف منه محاولة إدراك الحقيقة بخلق الإستفهامات والتساؤلات التي لا تكسر مصابيح العقل ، بل تبعا للنظام العقلي المقبول. حتما حينما تدار جلسات التحاور الفكرية بجارحة العقل في كل نقاط الإختلاف سيستمر التآلف والرضى بين الأطراف وسيتبع الفكر الصحيح المتفق عليه، وأكثر الظن هو الإتفاق عليه. سيثري الإختلاف الفكرة المختلف عليها، حينما يكون الإختلاف وليد اللحظة، أي لم يكن هنالك إختلاف قبلا في تلك الفكرة أبدا، فهذا يعد مجهودا طيبا ومثريا، ليضاف إلى الموسوعة الفكرية.
أما الإختلاف الذي تدفعه جارحة العاطفة هو عادة إختلاف يخلق لتصفية الحسابات في القاموس الجديد، أو للثأر إن صح التعبير، وهذا جليا في معظم مسائل الإختلاف التي تدفع بجارحة العاطفة، لأن المراد هنا ليس الإثراء وإنما غير ذلك، فالعقل وحده يثبت هذه الحقيقة. حينما تثار مسألة فكرية قديمة، الإختلاف فيها أصبح شيخا كبيرا ، لتكثر الأقوال والأراء فيها ، بماذا عساها ستثري الحياة والفكر؟! بلا شيء طبعا.
قمة الخسارة والتخلف حينما تشغل حياة شخص ما فكرة أزلية والإختلاف فيها أزلي وبلغ الشيب فيها ذروته ، ليثير في الوسط الثقافي وكأنها فكرة جديدة، ليهلك نفسه ووقته في سبيل أن يثبت رأيا قد قاله أحد قبله بعشرات السنين، أو مئات السنين، بأي جدوى سيتمخض هذا الإختلاف؟!
بأي فائدة ياترى؟!
لا شيء سوى أن صاحبها بذر وقته وجهده ليقول كلاما قاله الكثيرون قبله بقرون عدة.

إن الإختلاف في الفكر ليس وليد اليوم، بل ولد مع المخلوقات لعيش وسط الأحياء ما عاشوا، حتى يوازن الكفتين، وليولد من رحم الأفكار أفكارا جديدة لتتوالد هي بدورها فتثري الحياة بتعددها وتباينها. والإختلاف سمة بها تبنى الثقافات والأمم، لا لتنهدم بها ، لأن حقيقة الإختلاف هو إزالة الإبهام عن المبهم ليتضح كالشمس في وسط النهار. فالأمم التي تبنت سمة الإختلاف بقوانينه بنت لها حضارة واسعة قوية لها أصل ثابت وفرع ممتد ، فعظمت وكبرت وزخرت ثقافتها وحياتها، لأنها أمة دفعت الإختلاف بعجلة العقل ، هدفها الإثراء وإظهار الحقائق. أما الأمم التي تدفع الأختلاف بعجلة العاطفة هي أمم لا ترقى ولا تتمجد أبدا، لأن جلها أريد بها ضرب الطرف الأخر وبسط النفوذ والتسيد والإعتلاء فقط، وأكثر إختلافاتها في شيء مختلف فيه أساسا ، فأين الإثراء هنا؟!
الأمة التي تستهلك طاقاتها لتثير الإختلاف في أفكار مختلف فيها منذ زمن والإختلاف يثار كل يوم، هي أمة منحطة فاشلة خربت عقولها فلا تقوى على الإبداع وإنما قوت على إثارة المثار فقط.