إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 26 فبراير 2016

العطاء و (فريق واو التطوعي بجامعة نزوى)



 
قد يندهش الواحد منا حينما يرى أسرابا من الطيور تنتظر موعدا لن تنساه مع الشيخ سعيد الذي أكمل الستين خريفا من عمره، موعدا قد يأوله البعض على أنه عاطفي بالدرجة الأولى، والبعض يفسره على أنه موعد لحاجة ثم سرعان ما ينقضي. ولكن الأرواح وحدها من تفهم حجم العلاقة بين الطير والإنسان، في الإئتلاف العظيم الذي يحصل بينهما، ونادرا ما يحدث في الحياة الحاضرة، لأسباب كثيرة يصعب حصرها. في كل صباح وعند كل ظهيرة، يحين موعد اللقاء الذي يجمع بين الشيخ سعيد وسرب الطيور في محلته، ووقت الغروب هو الأخر. الشيخ سعيد قد آسر الطير بكرمه وحسن خلقه، فهو سواءا مع الإنسان وغيره في نبله وعظيم عطاءه. في تلك الأوقات ينثر الشيخ الحب بسخاء عظيم، ليطعم الطير المحلق في سماءات البعد باحثا عن لقمة سائغة تسد رمقه وتقتل جوعه، لترى الأسراب المحلقة تهبط في تلك الساحة التي إعتاد الجميع على الإلتقاء فيها. كل من يشاهد الموقف سيتعجب وسيسأل نفسه لماذا لا تأتينا الطيور كما تأتي للشيخ سعيد، لتتحلق حوله، فتلتقط الحب الذي ينثره عليها بسخاء. لن تكون الإجابة سهلة، لأن ما يجمع الطرفين قبل أن يكون عطاء اللقمة، فهو الحب العظيم الذي تجلى في الخير الذي يسديه الشيخ للأخر، وهذا النبل الكريم، لم يكن لأجل مصلحة دنيوية أرادها الشيخ، بل أمن كل الإيمان أن العلاقة بين المخلوقات علاقة تكاملية، منشأوها الحب ومد اليد للأخر، مما يجعل المخلوقات كسلسلة مترابطة قوية، لتقوى الحياة بهم والمجتمع الحيوي ككل.

قد نرى الحياة برؤية قاصرة حينما نراها من ناحية منزوية، لكن حينما نراها من العلو، حتما سنراها واضحة، وحتى نرى بوضوح علينا أن نسعى نحو العلو بكامل قوانا، فالعلو ليس مقتصرا على أحد دون الأخر. ففي العلو نرى كل الحياة بكامل إحتياجاتها، ستكون نظرتنا الثاقبة هي كيف نمكن للحياة مسارها الصحيح؟!
إندهشنا حينما رأينا إئتلاف الشيخ والطير معا، وقد حافظ الجميع على موعد اللقاء المحتوم، طير وإنسان ياترى كيف يجتمعان مثلا ؟! السر يكمن في سحر القلب وسحر الطبع، وجعل الحياة تكاملية بين المخلوقات كلها، ليس بالضرورة أن تكون مع الإحياء فقط، بل حتى مع الجمادات. فكان عطاء الشيخ الجزيل للطير وبحب العطاء جعل الأخر يحب حضور لحظة العطاء ، لأنها أعطية أريد بها زرع المحبة والسلام واستمرارية الحياة في تكاملها، كل يعمل من جانبه ليتم البناء، وليتم الحصاد، حياة جميلة، ترفرف عصفورة في خمائل الورد جنب سواقي الماء التي تعزف بالحب خريرا، على مقربة من الإنسان المليء بالعطاء.

حينما كان العطاء نافذة كبيرة للسعادة،كان الإنسان لا يتنفس إلا السعادة، فهو خلق لأجل السعادة، التي لابد وأن تنير سماءات الكون. وحينما كان العطاء عظيما بين بني الإنسان، كان الإنسان نفسه يحس بإنسانيته، وبالشبه العظيم والقرب بينه وبين بني جنسه، لأن العطاء كسر كل الحواجز بينهما ليخلق فضاءا رحبا مليئا بالمودة والرحمة والعطف والمحبة، فلم تكن الكبرياء وقسوة القلب والترفع موجودة في حياتهم. وكان الإنسان قريب الحياة من الحيوان، لاسيما أنه يشترك معه حتى في النوم، كل ذلك لأن يد العطاء ممدودة من الإنسان للحيوان، فتكسرت كل الحواجز بينهما، مما جعلهما يأتلفان ليكون الأخر أليفا في بيت الإنسان. فالإنسان مدني بالطبع، وهو في حاجة للإنسان نفسه، وذلك حتى تكتمل الحياة كما أريد أن تكون بين بني البشر والحيوان وكل مخلوقات الكون، فالواجب على الإنسان أن يجعل للعطاء مكانا في حياته ونبراسا ينير طريقه.

اليوم وكلنا نشاهد تطور العطاء ليكون نفسه ولكن بمسمى أخر، فالجميع يتفق عليه أنه العمل التطوعي، وكل هذا يكثر فيه العطاء للحياة كلها بنمط متغير عما كان عليه سابقا، وإن اتفق في الأنماط. يطلق فريق واو التطوعي في جامعة نزوى برنامجه التطوعي الذي يخدم المجتمع ككل، آخذا في ذلك هدف العطاء للمجتمع لرقيه ونمو كوادره كلها. يتبنى هذه المبادرة شباب ناجحون أخذوا على عاتقهم الجهد والمثابرة في خدمة المجتمع باذلين نشاطا قويا نحو تحقيق الهدف. يبذل الشباب قصارى جهودهم في تحقيق الأمال وذلك بدعم المجتمع لهم ماديا ومعنويا، فهم حلقة الوصل بين المجتمع والمجتمع. يقضي أعضاء الفريق جل وقتهم في الإعداد والتحضير لأنشطة الفريق الخيرية، جاعلين نصب أعينهم العطاء للمجتمع هو العطاء الإنساني الذي لا ينضب، فكم من إنسان بات محتاجا لأخيه الإنسان والأخر لا يدري عنه وعن حاجته، فدور الفرق التطوعية أن تكون حلقة وصل بين الإثنين مضحين بأوقاتهم وراحتهم ومالهم، فلنكن عونا لهم ولنمد يد العطاء ليكثر العطاء.

 

 

الأربعاء، 24 فبراير 2016

الحياة



يفيق الإنسان من نومه المحتم عليه، سيرى الحياة كما غادرها قبل نومه، لم يتغير شيء فيها أبدا. الناس مثلما تركهم، المباني لم تتغير، العصافير تزقزق، المياه تنحدر، النسيم يهب، الشمس تشرق ثم تغيب. لم يتغير في الحياة إلا الزمن فقط، فاليوم ليس أمس، فأمس قد مضى ورحل بلا عودة، وأما الحياة فهي الحياة، نكبر وتكبر آمالنا وطموحاتنا، وأما تحقيقها يعتمد كليا على الإيمان والنشاط اللذان نبنيهما كل يوم في كينونتنا، منذ الصغر حتى أخر نفس لنا.

فالحياة فترة زمنية، يقضيها الإنسان كيفما يحب أن يقضيها،وفيما يحب ، أما بدايتها فتختلف من فرد لأخر، وايضا نهايتها، لأنها مستمرة إلى أن يشاء الله.ففي هذه الفترة الزمنية يتسابق الناس في كيفية الإستمتاع فيها ، وكيفية عيشها. فالبعض يوفق في اقتناص فرصها، ونيل ثمارها الطيبة، والبعض عكس ذلك. فحتى نوفق في جني ثمار الحياة الرائعة، علينا أن نجتهد فيها ونتسابق لتحقيق الأهداف، ففي تحقيقها السعادة العارمة، وهي لا تؤتى بسهولة ويسر، بل باجتهاد ونشاط كبيرين.

فالحياة مزرعة مليئة بالكثير، والإنسان فلاح ، فمن أراد أن يزرع مزرعته بكل أصناف الأشجار فعليه أن يجتهد في حراثة الأرض، وزراعتها خطوة خطوة منذ البداية وحتى النهاية، مرورا بكل الفترات والمحطات والمواسم، فلا يمكن أن نجني اليوم ما نزرعه اليوم، بل حتى نجني طيب الثمار غدا علينا أن نجتهد في الزراعة اليوم.

والحياة موسوعة ضخمة من المعرفة منذ الأزل وحتى النهاية، ففي كل دقيقة فرصة للتعلم ونيل المعرفة، وفي كل محطة ، فرصة لإكتساب معلومة وخبرة، سواء من الأشياء حولنا، أم من الأحداث ، أم من تجارب الأخرين وذلك بمجالستهم أو بالقرآءة عنهم. فالحياة مليئة بكل شيء يجعل الإنسان يكتسب الخبرة والمهارة بسهولة ويسر، حتى يستطيع أن يوظف خبرته في سبيل إسعاد نفسه وبني جنسه.

كل ينظر للحياة بنظرة تختلف عن الأخر، وذلك حسب الطبائع، والثقافة والعقول. وعلى غرار ذلك يمهد الإنسان دربه في الحياة ليسير عليه كيفما أراد . فمنهم من يمليء دربه بالورد ، والأخر يملأه بالشوك، والشوك ليس كمثل الورد.فنرى في الحياة الناجحين والسعداء ونرى غيرهم، لا يختلف بني البشر فيما بينهم إلا في درجة استغلال العقل، ودرجة النشاط في الحياة.


 

الأربعاء، 17 فبراير 2016

ماذا ستكون مفاجأة معرض مسقط للكتاب هذا العام؟!


تقاس حضارة الأمم بمقدار الكتب التي تقرأها كل أمة، أو بالأحرى، مقدار حب الأمه للكتاب، ومقدار أعداد المكتبات وأنشطتها. وتقاس أيضا بمقدار نشاط المؤسسات الثقافية والعلمية والنتاج الثقافي والعلمي والفكري، غير هذا لا يمكننا أن نشير بالبنان لأي أمة تفتقر إلى كل هذا ، وإن تغنت بمجد قديم أو مجد مصطنع، فالمجد في النتاج العلمي والفكري والثقافي.
والكل يعلم ما للمكتبة والكتاب من دور مهم في ترقية فكر الأمه، وتقويمها وسموها، وتقدم حضارتها، كل هذا مرهون بما تقدمه للكون بما فيه من مخلوقات من خدمة ، ومحافظتها على الإتزان الحيوي. وكل ما ذكرناه لا يبتعد عن السلوك، فالسلوك القويم والخلق الحميد هو ما نادت وتنادي به كل الحضارات السابقة والحاضرة. فالكتاب لا يرقي الفكر والثقافة ونمط الحياة فقط، بل الأخلاق في مقدمة كل شيء،
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت... إن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا.
فكان جديرا بالأمم الإهتمام ببناء المكتبة لتوفر الكتاب وسهولة الحصول عليه، وكوننا أمما عربية حاضرة لا تهتم بالكتاب، فقد لجأت حكوماتنا لعمل معارض للكتاب مرة بالسنة لنقتني الكتب التي نبحث عنها طيلة عام واحد إن وجدت.
فمعرض مسقط للكتاب أحد المعارض التي تقام مرة في كل عام، وهو حدث ثقافي تشكر الحكومة على المحافظة على استمراريته رغم ما عليه من عتب.
في السنتين الماضيتين قدم لنا معرض الكتاب مفاجأتين من العيار الثقيل بعرضه كتابين عبارة عن مجموعة قصصية ورواية لا ترقى المؤلفتان لأن تعرضا سواء بالكم أو بالأسلوب، ولأن الكتابين ضحلان ويفتقران للدسامة وكل من يفتحهما لن يجد ضآلته أبدا، ناهيك عن مضمونهما، والكلمات الموظفة فيهما، ويكأن من كتبها لم يجد في العربية كلمات سواها، كلمات حري بها أن تحترم الثقافة والقرآءة والكتابة ، وتحترم القاريء نفسه، فكان شئء من محتواها مالم يحترم المجتمع ككل. حينما يلجأ كاتب ما إلى استعارة كلمات فاضحة ليوظفها في رواية أو مجموعة قصصية في مجتمع يمقت مثل هذه السياقات ويعدها غير إخلاقية لجدير به أنه يفتقر للموهبة الكتابية التي بدرورها تجذب القاريء أو بالأحرى تجعل الناس يقبلون على الكتاب. فعادة من يجد في نفسه عدم المقدرة على توظيف الكلمة الراقية ، والأسلوب الراقي ، والصورة الراقية حري به أن يسلك هذا السبيل إن كان مبتغاه الشهرة وذلك من سبيل خالف تعرف. قرأت أحد الكتابين بتمعن شديد، حقيقة لم أجد الموهبة الكتابية البتة، فاندهشت كثيرا ليس من الكلمات الهابطة فقط، بل من الأسلوب وكيف لدار نشر أن تنشر مجموعة جمل وفقرات تفتقر للأسلوب الكتابي المثمر؟! وصلنا لدرجة أن دور النشر تنشر كل مابين الدفتين دون تمحيص وتقيم، والمصيبة الكبرى أن مؤسسة ثقافية ضخمة تدعم هذا العمل بحجة دعم المبتدئين، وفي المقابل هنالك أعمال كتابية ضخمة تنتظر الدعم ولا يلتفت إليها البتة. وحينما أثيرت قضيتهما أدعى البعض أنها حرية كتابية، وللكاتب أن يكتب ما يحلو له، ويوظف ما يرغب في توظيفه من كلمات في عمله الكتابي، دون أن يراعي مشاعر القاريء ويحترم ذوقه وذوق المجتمع، معتبرين أن من يرفض كهذه  كتابات فهو جاهل وحاقد ويسعى لإرتكاس الثقافة. تابعت جل المواضيع التي كتبت في هذه القضية من الجانبين ولن أعلق على أي منهم لكن سأذكر مثالا رائعا لكاتبة فرنسية كيف تحترم الكتابة وتحترم ذوق القاريء . الكاتبة الفرنسية سيمون دوبوفوار الثائرة الملتزمة ، ثائرة في حياتها تحب الجنس وتعتبره شيئا أساسيا في حياتها ربما حد الإشهار، وهي كاتبة وروائية بارعة تفوق جل الروائين العرب فما بالك بكاتبي تلك المؤلفتين، لا يصلان عشر براعتها في الكتابة. كانت سيمون دوبوفوار تكتب بحشمة كبيرة وحياء ربما يكون مبالغا فيه ، لا تكتب كلمات هابطة فاسقة، بل تحترم الكتابة باعتبارها فن عظيم مقدس ويوجب إحترامه. لا توظف الصور غير اللائقة، ولا الأساليب غير المحتشمة، رغم حبها المفرط للجنس والحرية، ونشاطها الحيوي لا دخل لنا فيه، حياتها وتعيشها كيفما تشاء. هنا نحن أمام قامة كتابية، أمنت أن للكتابة خلق ويجب التخلق به رغم رغباتها خارج الكتابة، هي تعلم أنها صاحبة موهبة أدبية تجعل القاريء يحترمها ويجلها. ذكرنا هذا المثال ليكون من خارج محتمعاتنا لنذكر الأخر أن للكتابة ذوق وخلق وهو فن رفيع لا يجب أن يتزيا به إلا من يجله ويحترمه. 
إن المؤلفتين اللتين قدمهما لنا معرض الكتاب في الدورتين السابقتين ، وفي ظني هما كبش الفداء لجس نبض الشارع لأن هنالك ما هو أدهى وأمر من أعمال كتلك التي تستعير الفاضح من الكلمات. فماذا عسانا ننتظر هذا العام من مفاجأة من نفس العيار؟!
الإشكالية التي تعصف بالمجتمع أننا أصبحنا لا نفرق بين الحرية السوية، وإغتصاب حريات الأخرين، وبين ماهو لي وما علي، لنعمل ما يحلو لنا ضاربين عرض الحائط الرأي الأخر، والذوق الأخر، ومشاعر الأخرين. فيكسر إطار الحرية لتكون حريات الناس غير مؤطرة لتتضارب مع بعضها البعض، فتختلط الأمور علينا. والمشكلة الكبرى أن مجتمعنا يخلو من الناقدين ليفيض من المنتقدين وهم كثر ، فما أحوجنا لناقد يوضح لنا أخطاءنا الكتابية ويعلمنا كيف نتجاوزها، ويخبرنا بمحاسن الكتابة. فكل العالم منتقد سواء كان يجيد القرآءة أم لا، فالكل يناقش ويحلل، ويدافع ويهاجم، ليبقى صاحب الأمر لا يعلم ما يحدث، ولا يعلم هو أين.
.

الأحد، 7 فبراير 2016

حياة ما بعد التقاعد،

حياة ما بعد التقاعد...


من جوانب السعادة،،١،،


يحكى أن رجلين قد تقاعدا من عملهما بعد قضاء عمر العمل الإفتراضي، فأخذ كل منهما مستحقاته وأجوره ليعيش ما تبقى له من عمر. أخذ كل منهما يفكر في ماذا وكيف سيقضي باقي عمره مزاولا حياته الدنيوية، سواء في كسب مزيدا من المال أم في الإسترخاء أم في شيء أخر. ولا يخفى على أحد، أن الإنسان حينما يتقاعد من عمله، يكون قد أفنى جل عمره في العمل، ولم يتبق له إلا القليل وذلك بمشيئة الله، فيكون هو في عداد الذين يراقبون تعداد أوقاتهم ليقيس المتبقي من عمره مخمنا في عدد السنوات الباقية، إن كان لا يشعر بسعادة في هذه الفترة، وما أكثرهم! وأما السعداء فلا يحسبون للأيام حساب إلا اللهم إن كانت تنتظرهم جائزة يبنون بها سعادتهم ، وهولاء الذين خططوا للسباحة في فضاءات السعادة.
سالم بعد تفكيره الذي خمس وسدس به رأى أن يستثمر المال الذي كسبه من مستحقاته في تجارة تنميه حتى يأتيه الأجل ليصير المال ورثة لأبنائه من بعده. إشترى محلا لبيع مواد البناء واشترى كل كمالياته المطلوبة لكمال المحل، وبدأ في حياته الجديدة يبع الأخشاب و الحديد والإسمنت وماشابهها. كل صباح يخرج سالم من بيته متجها لمحله في صناعية سناو ليفتحه عند الساعة الثامنة، ظنا منه أنه لا جدوى من فتحه قبل ذلك لأن الزبون عادة مجيئهم بعد ذاك الوقت. يقابل سالم كل يوم عشرات من الناس ، مقاولين، عمال، واخرين، ومن جنسيات مختلفة وأطوار مختلفة وميولات متباينة، ومزاجات رائقة وغير ذلك. كل هذا وذاك يواجهه سالم كل يوم في صناعية سناو ، منهم من يجادل في الأسعار ومنهم من ينتظر سلعته ومنهم من يشتكي من التخلف في الإستلام ، ومنهم يذكر نقصا لعدد من الأشياء قد حصل حين إستلامه لها. يعود سالم لبيته كل مساء منهكا كارها عمله الجديد وتجارته التي قرر إتيانها جراء ما يواجهه كل نهار من الوضع الذي لا يكاد يطيقه وهو في كبره، ليزداد بياض شعره وتجعد جلده ، وإصابته بالضغط. إحتار سالم ومكث يفكر ذات ليلة بين ما يحدث له الأن وبين تلك الأيام التي كان يطالب فيها بسرعان الحصول على التقاعد، ليجد نفسه أنه ينتحر شيئا فشيئا لأختياره عملا حادا يزيد من إرهاقه ، وذلك بتعامله مع أنواع مختلفة من البشر وطبائع متباينه كلهم يجري خلف زيادة ماله ، ويبني تجارته ، فمنهم الصالح ومنهم الطالح ومنهم الأمين ومنهم الخائن واللص ، ومنهم البخيل ومنهم الكريم ومنهم اللين ومنهم الجاف، بعد أن كان يحاول الهروب من ضيق العمل بحصوله على التقاعد. كل هذا وذاك من الأعمال التي يعملها حاليا بحاجة لشخص ما زال في ريعان شبابه لكي يستطيع التعامل مع الجميع ، لكن سالم لم يستطع أن يتأقلم مع هذا الوضع حتى أدرك أنه كان يدير عجلة حياته ويدفعها بقوة لتصل لنهايتها، فتوقف منهيا عمله ذاك ببيع المحل متحسفا على  تلك الأيام التي يعدها أنها ضاعت.كان يخطط للتقاعد والإبتعاد عن صخب العمل والرزوح تحت وطأة الإنقياد وتأطير الحياة بالإنضباط مع قانون العمل. لكن التفكير في المادة وجعلها شيئا أساسيا في سير الحياة يجعل الإنسان لا يبصر الأشياء جيدا ، بل يبصرها على غير حقيقتها.
يؤمن حمد أن الرزق مكتوب، ولن يأخذ الواحد من بني البشر أكثر من ما كتب له من رزقه، وأنه سيفنى يوما لا محالة. كان يملك مزرعة مترامية الأطراف، لكنها تفتقر إلى العمار ، فجل مساحتها بيضاء لم تنبش ولم تحرث، والسبب يرجع إلى إشتغال حمد في وظيفته التي أخذت منه الكثير من عمره. قرر أن يقضي باقي عمره بعد تقاعده مشتغلا في مزرعته لينفق فيها ما تحتاج له. لم يكن توجه حمد أقتصادي بالدرجة الأولى بل كان يريد أن يعمر مزرعته ليشعر بالسعادة لأنه أمن أن سعادته موجودة في المزرعة، فما عليه إلا أن يحرث ويغرس ويروي ليقطف يانع الثمر، ولا يمنع أن يحصل على مردود إقتصادي منها، ليكون حاملا نفقتها على أقل تقدير. بما أن حمد فلاح ومثقف في نفس الوقت، فإنه قد استعان بخبرته في تعمير المزرعة لجعلها مزرعة تحوي الكثير من الأشجار، وحظائر الحيوانات والطيور، وجعلها حديقة في الوقت نفسه، حتى يشعر وهو بداخلها بشعور الفتية العاشقين الذين تتراقص بين ضلوعهم أزهار الجمال وورود الروعة. قضى حمد وقت يومه في المزرعة متنقلا بين الأشجار ومشتغلا بها، يرويها من دماء قلبه، لتثمر له سعادة يقطفها كل صباح ومساء من عناقيدها. ساعة يكون بين النخيل وأخرى بين الحمضيات وثانية بين الحشائش ، و أخرى بين الورود والأزهار، وأحيانا يتردد على حظائر الطيور والماشية. يتنعم بمختلف النعم التي تزيل عنه كل هم وألم ، تشعره هذه النعم وكأنه طفل في جسد كهل. يقابل كل يوم مخلوقات لا تعرف معنى تقلبات المزاج ولا التعامل البغيص مع الإنسان، بل مخلوقات تعطي أكثر من ما تأخذ، وكل أعطياتها طيبة، إما مذاق طيب ، أو روائح زكية ، أو مناظر تسر الأحداق ، فتبهج الأنفس مما تحس وتشعر بكل جوارحها . داوم على هذه الحال باقي عمره راحلا في الصباح الباكر إلى مزرعته ومرتحلا عنها عند العتمة إلى بيته لينام بين أترابه ملأ جفنيه، كان يداوم على النهوض باكرا في كل يوم ولا ينام إلا في عتمة الليل، ليعيش أكبر قدر في اليوم الواحد ، حتى لا تفوته لحظة واحده، فالنوم هو قتل للحياة.
هكذا هي الحياة، يتنقل فيها الإنسان من مكان لأخر ومن وضع لأخر ، باحثا عن ما يفرحه ويسعده، وكلنا نختلف عن بعضنا في البحث عن السعادة وكيف نبحثها وفيماذا سنجدها. فسالم إرتأى أن راحته ستكون في انشغاله بعد التقاعد في بناء ماله وزيادته ل أللا يكون عالة على أحد يوما ، لكن المصاعب المشوكة سرعان ما أرهقته وأتعبته ليتجعد جلده أكثر مما تجعد، ويبيض شعره أكثر مما هو عليه، ليغضب كثيرا ويتألم أكثر، ليخرج من التعب إلى التعب ومن الألم إلى الألم لينام ليلته في أحضان التعب إلى قاع جفنيه. أما حمد وجد سعادته في إحتضان مزرعته ليشكلها كيفما يشاء ، ليزرع في ذاك الرواق وردة زاكية تبهج نفسه وتلذ أنفه، وفي ذاك الرواق نخلة مثمرة طيبة ، وذاك الرواق خمائل الحمضيات لتغني في فضاءاتها عصفورة حبلى بالشوق والإشتياق ، وبالحب سلوى، ليهنأ في صباحه كما يهنأ في مسائه.فالسعادة عصفورة تزقزق في كل فضاء فعلينا فقط أن نتعلم كيف نستمع لها، ووردة تزهر في كل فناء ولنبحث عنها في فناءاتها.