إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 26 مايو 2016

تحت وطأة الفقر



في عصر كل إثنين ينتظر بنوها عند الباب قدوم الشاحنة التي تشتري المعادن من الناس، سيارة المعدن كما يسميها أبناء الحي ، كانت لهم رزقا متذبذبا، جراء بيعهم علب المشروبات الغازية التي يجمعها أبناؤها من صناديق القمامة أو التي يلتقطونها من الأرض التي رماها الناس من سياراتهم. وليست القيمة كبيرة لدرجة أنها تكفيهم بعض إحتياحاتهم، بل تزيد فيما يجمعونه من هنا وهناك، كادحين غير متسولين. سلمى تبلغ من العمر خمس وأربعين خريفا، فقدت زوجها قبل خمس سنوات ولم يترك لها سوى بيت عتيق ورثه عن أبيه وأربعة أطفال الكبرى والصغرى إبنتين أما الثاني والثالث فهم ولديها الاكثر كدحا بين أبناء الحي، وعمريهما بين العاشرة والثالثة عشر ، لكنهما يعملان كل شيء لاسيما في موسم القيظ ، لأنه أكثر المواسم ثراءا وأكثرهما إنتاجا. راتب زوجها الشهري لا يكفي لأن يسدوا إحتياجاتهم الحيوية، فلم يكن الإعفاء من دفع الفاتير يحالفهم ، فهم ليسوا من أبناء الأثرياء ، أو موظفي الحكومة الكبار المليئة جيوبهم من العطايا، أو ليسوا من أبناء أحد الشيوخ الذين تغدقهم الحياة بعطاياها. فهم ليسوا إلا فقراء ورثوا الفقر أبا عن جد، لحسن حظهم أن الكرامة والعزة وكثيرا من الخصال الحميدة ترعرعت بين أروقة بيتهم، لتحسبهم أغنياء من التعفف، والفقر قد شرع خيامه في حماهم.
ولم تكن تأتيهم العطايا والصدقات والزكاة من الخيرين، فلم يسمع الناس أنينهم، ولم يروا مظهر جوعهم، ولم يقرأوا قائمة إحتياجاتهم، قد جعلوا كل شيء سرا، إلا اللهم أن الفقر قد لون ملابسهم وشيئا منه في وجوههم وأجسادهم. فهم يكثرون الكدح المتواصل لتأمين لقمة العيش، حتى لا يسمع صراخ أمعاؤهم، ولتامين الملبس حتى لا يرى عريهم، أو حتى لا يروا بثياب بالية. كانت سلمى حريصة كل الحرص على أن لا يتأذى أبناؤها بكلمة أو منظر من حال الحياة المحتمة عليهم التي لا مفر عنها، لكن الحال فرضت نفسها عليهم، فكانوا ضحايا مناضلين. كلما تجمع المال معهم تذهب سلمى لشراء المؤنة ، ليس هنالك موعد محدد لها كباقي الناس الذين ينتظرون معاشاتهم نهاية كل شهر، فيملؤن بيوتهم بالمشتريات والتي بعضها سيرمى من ترف أو تبذير، فمعاش زوجها لا يغطي جميع الإحتياجات.

 دكان سالم الذي يبعد قرابة كيلومتر واحد ، هو الدكان الذي تشتري مؤنتها منه كلما تجمع مال لديهم. دخلت الدكان بعد المسير المتعب، تشاركها ابنتها الصغرى أبنة ال سبع سنين ، كان الدكان واسعا ومليئا بالمعروضات، فهو الدكان الوحيد في تلك المحلة، وكل أهلها يتسوقون منه، فكان الربح وفيرا، لاسيما والعم سالم سهلا في البيع والمعاملة. تدفع عربة المشتريات أمامها وتتبعها ابنتها، التي لا تنال من هذا المشوار سوى التعب والبكاء بسبب عدم حصولها على رغباتها كطفلة، تتمنى امتلاك كل ألعاب العالم، لكن أين لها وهي الأكثر فقرا في تلك البقعة. يجر قبالههم رجل شاب عربته والمليئة بكل شيء يصحبة أطفاله المشاكسون، كانوا هم من يمليء العربة بكل شيء حلويات بطاطس األعاب وبعض إحتياجات المنزل، وهو غير أبه بما يتناوله أبناؤه من أشياء، لأنه سيدفع غير مبال. شمسة الطفلة الصغرى من أبناء سلمى تنظر للأطفال والعربة المليئة بنظرة لا يعرفها أحد إلا الأطفال فقط، بنظرة تتلألأ الأحداق بها، تسمرت قبالتهم، ولسان حالها يقول أريد لعبة ، أريد أن أعيش الطفولة العذبة، كفى من طفولة الفقر والحرمان. أريد شيئا واحدا من تلك العربة، لأصنع بين أضلعي فرحة الأطفال ، ولأعيش بهجة اللعب ومتعة التسلية. شمسة ذات الشعر الذي لم يسكن في رأسها، بل بدا متفرقا في جدائل صغيرة ليست كجدائل الحسان، بل كجدائل بنات الفقراء، ولا يخلو من الأتربة المندسة بين الشعر. كل شيء لا يبدو فيها جميلا سوى عينيها السنجابيتين اللتين تمطران اسستغرابا ودهشة، ثيابها عتيقة بالية, قدميها حافيتين مليئتان بالتراب وبعض التشققات ,يداها سمراوان ووجها من ضربة الشمس ، مما جعل الأطفال يسألون عنها أبيهم، لماذا تحملق فينا تلك الطفلة ذات الثياب العتيقة والشعر الأشعث؟! سحب الرجل أبناءه هربا منها في ظنهم أنها مؤذية كما شاهدوا بعض أفلام الخيال، إلتفتت إليهم حينما ذهبوا ترمق الألعاب بنظرة الحزن ، إنه حزن الأطفال الذي يفجر براكين البكاء في نفوس أصحاب الضمائر الحية. قعدت بجانب اللعبة المركونة في رف الألعاب حسرة ورغبة تمتع ناظريها بحلم لم ليس سهلا تحقيقه، ترمقها أمها حسرة وإشفاقا، وقلبها يدمي ويحترق، لسان حالها يقول نحن خلقنا هكذا يا بنيتي. سحبتها بقوة والحرقة تحرق حشاشتها ، وجوفها يغلي كما تغلي حمم البركان.

وقفت خلف الرجل الذي ملأ عربته بكل شيء حتى تحاسب، ليكن حساب مشترياته مبلغ كبير وأبناؤه لا يزالون يملؤن بطن العربة من الحلويات المركونة جنب المحاسب، وسلمى وطفلتها تنظران من طرف خفي. تحاول ابنتها تناول علبة حلويات، فتمنعها أمها قائلة لها سأشتري لك إذا تبقى لنا نقود من التي نحملها، فرحت الطفلة فرحا بوعد أمها تمني نفسها فرحا وسعادة، تفكر في علبة الحلويات، أنها لن تأكل منها شيئا حتى تصل البيت لتشارك إخوتها بها ، ليأكلوها جميعهم في جمعة واحدة، ما أقساها من أمنيات حينما تكذب على قلوب الأطفال؟! وما أقساها من أمنيات حينما تكون مستحيلة؟! وما اقساها من أمنيات حينما تجلد قلوب الأطفال بسياط الفقر؟!. حينما تمت المحاسبة بلغ حسابها أربعين ريالا وسلمى لا تملك إلا خمسا وعشرين ريالا، نظرت إلى النقود ، ثم تقفز نظراتها إلى المشتريات، والحرقة تأكل قلبها ألما. قالت للمحاسب لنأخذ بقيمة خمسا وعشرين ريالا فقط، فأخذت المهم من المشتريات وتركت الباقي وخرجت تجر معها طفلتها. تنظر شمسة بنظرات كلها حرقة وألم شديد يعتري نفسها، لماذا لم تشتري لها أمها الحلويات؟!

لماذا اشترى ذانك الأطفال كل أنواع الحلويات والألعاب؟! لماذا؟! ألا يحق لها أن تفرح؟! لماذا يفرح الأخرون وهي لا تفرح؟!
تبكي بكاءا مرا ، متسمرة مكانها تريد العودة للحلويات، تسحبها أمها بقوة لتضربها حتى تترك عنادها وتتبعها إلى البيت. تمشي سلمى حاملة أكياس المشتريات في يديها وشيئا في رأسها، ويبكي قلبها بكاااااااءا لا أمر منه ولا أشد ، وتبكي الطفلة بكاء الأطفال، لكن بكاء الأم أشد واقسى، يا لقساوة الفقر! يا لقساوة المجتمع! يالقساوة الناس! كلهم قلوبهم قاسية، ضمائرهم نائمة، ينعم الواحد بكل شيء ، وفي محلته فقير لا يجد بسمة يريح بها قلبه، الكبير ثقل عليه الفقر والطفل حرم من بسمة الطفولة ، الغني يسرف في كل شيء، والفقير لا يجد شيئا، الأغنياء يسمع الفضاء قهقهاتهم ولهوهم ، والفقراء لا تسمع الجدران أنين قلوبهم وبكاء نفوسهم.


غدا ستشرق شمس الصباح وستصحوا أجساد متخمة متعبة من الطعام والشراب، وقماماتهم فائضة وقططهم سمينة، ، وستصحوا أجساد لم تنم من الجوع ، بيوتهم تخلو من الطعام.

الأحد، 1 مايو 2016

طفلة حلب



بين أنقاض العمارات المتهايمة، والطرقات المليئة بالأشلاء ، والسكون الذي يخيم على سماء حلب، ثمة طفلة تبحث بين الركام عن الحضن الحنون، وعن صاحب الساعد الأسمر، وعن نصفها الأخر الذي طالما شاركها الرقص على جنادل البنايات ويملأآن المكان بالضحكات البريئة.
تقف في وسط أللا شيء تنظر بعيون محتارة خائفة، يحوطها كل شيء مدمر ، يهز كيانها البريء خوف وفزع وكأن لحظاتها تحولت لعتمات نجومها عيون الذئاب والأفاعي والجوع والبرد والحر. متسمرة وسط الكارثة وبين أضراسها أصابعها الناعمة تصك عليها بفكيها مدعومة بقوى الخوف تقطعها حتى تتفتق بدماء اليتم والذل والمهانة. متسمرة وشفتاها النرجسيتان تراقص الخوف خوفا والفزع فزعا ، والألم ينهش صدرها رويدا رويدا، يقتلها الذل ببطء شديد والحزن يجرحها بشفرة الضيق والشوق والفقد والوحدة اللعينة. متسمرة على قدميها النحيلتين الحافيتين اللتان فقدتا كل طاقتيهما ، فلم تعدا قادرتين على حمل جسد هزيل ، أضمرته الحرب الظالمة التي أوقدتها الشياطين لتنال مآرب لن تنالها ، لا بل ليتسلى أطفالهم برؤية الصواريخ والقنابل تدوي من سماءات حلب في سهولها وعرصاتها، ومدنها وقراها. متسمرة والدمع يغسل وجهها الأبي، الجميل البهي، وعيناها السنجابيتان تراقص الأمكنة، والنفس مخمورة من هول المنظر ، لم يعد للعقل عقل وللأذان سمع وللسان كلمات تنبسها الشفاة.

تركض بأللا وعي إلى ذاك الدمار لتنتشل أشلاءها المترامية في ناحية من الطريق أمها أبيها أخيها، قصفهم جبابرة السياسة بصورايخ الغدر والخيانة والذل والحقد، تصرخ ماذا تقول أمي أبي أخي ، فقدتهم جميعا، رحلوا عنها يحملون شكواهم إلى رب العباد ليزداد الشاكون على ساسة العرب لتكبر نارهم وتحر جهنمهم ، ليزداد لهيبها.
تبكي بكاء الفاقدين ، كيف تبكي لا تعرف كيف تبكي ، أتبكي بعينيها أم تبكي بقلبها أم تبكي بكل جوارحها ، هي لا تعقل شيئا سوى أنها تبكي وتتألم في كل عضو من أعضائها.
تبكي بذل ، تبكي بخوف ، تبكي بقهر ، تبكي بشوق ، تبكي بظلم ، تبكي بتعب ، لانها فقدت كل شيء في الحياة ، الوطن ، السكن ، المأكل ، الملبس ، الراحة ، النوم ، أمها ، أبيها ، أخيها، أصدقائها.
تقعد على الركام تقابل أمها وأبيها وأخيها منتظرة الموت لتلحق ركبهم وحولها أصوات الفجيعة مصحوبة بأصوات الصواريخ تدوي في كل الأمكنة.
تتذكر صدر الحنان الذي كان يضمها حينما تزلزل القنابل وطنهم ، الحضن الذي يحميها من الفزع من الألم من البرد من الحمى من السهر من كل شيء. تتذكر أصوات أمها وأبيها وأخيها ، تتذكر كل شيء حينما كانوا أحياء ، لم تصدق أن الحرب قتلتهم ، تتسأل ماذا فعلوا ليقتلوا؟!
ماذا فعلت لتكون وحيدة في هذا العالم؟!
هي لا تعرف أي شيء سوى أنهم قتلوا والدماء فاضت من أجسادهم لتملأ الأمكنة