قراءة كتاب من حديث النفس لعلي الطنطاوي
الكتاب: من حديث النفس
الكاتب : الشيخ علي الطنطاوي
دار المنارة للنشر والتوزيع
قراءة وتلخيص:صالح الفارسي
مقدمة الكتاب
على الطنطاوي
قال الكاتب في مقدمته أن مواضيع هذا الكتاب ليست كلها لعلي الطنطاوي، بل هي لمجموعة كاتبين وقد نشرت مواضيعهم في الكتاب،
ثم عرج الكاتب في مقدمته لمسألة استبدال الرأي بالرأي والفكرة بالفكر والنظرة بالنظرة في العام الواحد للإنسان الواحد. فكل إنسان معرض لتقلبات الرأي والفكر والنظرة حسب تقلبات الأوضاع والحقائق والمعارف. لكن في المقابل هنالك أراء وأفكار لا يمكن أن تتبدل مهما تبدل كل شيء وستبقى ثابتة حتى الأبد. وقد أكد على ما قاله حينما كان يكتب أيام استعمار الفرنسيين لبلاده، كانت له أراء قوية ومضادة لهم وهي الواجب في الدفاع عن الوطن والذود عن حياضه وممتلكاته ومقدساته.
أنا
نشرت في 1937 م
-قال لي أهلي لقد جئت إلى هذه الدنيا عاريا بل أسنان ولا تحسن النطق ولا تعرف شيئاً....
يستغرب وهو في سن كبيرة، لأنه يجد نفسه بغير ما وصفوه فهو ذو أسنان وساتر الجسد وينطق ويأكل ويشرف ويعمل كل ما يعملوه ويتصف بكل ما يتصفون. إلا أنه يختلف عنهم في بعض الصفات الأخرى كالحب والكره وما يشبهها من أشياء حتمية الإختلاف بني البشر.
فكل ما ذكروه ربما لم يكد يرى نفسه به أبدا، فهو فقط يعرف نفسه وهو مكتمل الأشياء الجسدية كالأسنان، الكلام الأكل وغيرها من الحاجات الإنسانية الضرورية، فهو يذكر نفسه وهو ابن الرابعة، فهو يعتقد أنه ولد طفلا في الرابعة من عمره وليس وليدا رضيعا.
-فهو كثير ما يخيل إليه ذاك الطفل الذي يخبره عن طفولته، يراه في المرأة وفي الأشياء الخاطرة، ويسمع صوته، ويراه في قصص طفولته التي ترويها أمه له، مستغربا هل أنا المعمر ذاك الطفل الذي يحدثوني عنه كثيرا! ؟
-عرج الكاتب في هذا الموضوع إلى أحداث طفولته مبتدئا منذ الصغر ويمضي تباعا ذاكرا أحداث عمره الأول فالأخر ومقارنا بين الماضي والحاضر بإسلوب أدبي جميل.
-ثم عرج إلى ذكر إيام المدرسة كونه تلميذا مجتهذا نجيبا، فكان يقضي جل وقته في المذاكرة والجد والإجتهاد مضحيا بوقت الطفولة ومتعتها مثابرا ليجد ويجتهد، حتى ينال مبتغاه من النجاح و التفوق، غائصا في بحار العلوم والأداب مقتطفا من بساتينها ثمارا ناضجة، ومتعمقا في بحار كلها خير.
فنجح نجاحا ثم قالوا لهم مهلا مهلا مهلا، قال ماذا؟
قالوا لها لابد لك من شهادة عالية لأن المستقبل لا يضمن إلا بشهادة عالية!
قال ويحكم وهل يبنى المستقبل على الورق!؟
فانطلق يلعن ذاك المستقبل الذي أضاع طفولته، وشغله عنها ليترك كل ملذات الطفولة ومتعتها حتى يبني مستقبله المجهول، والذي لا يعلم إن كان سيقطف ثماره أم لا، لأنه كأنه يمشي في جسر يقطع العتمة التي تفقد البصر فيبدو كل شيء مجهولا وغير معلوم البتة.
خضع هو لأمر المستقبل خوفا منه ومن التشرد في صحاريه القاحلة وفضاءآته المشمسة فطفق يدرس الحقوق والآداب ويناطح ويناضل حتى نال شهادة الليسانس.
فنزل بعده إلى الحياة مفلسا جيبه خاو لا مال لديه، وفي هذا العصر أن من لا مال له كساع في البيداء بغير سلاح، وأن من أمتلك كل العلوم ولم يمتلك فلسا، لا يستطيع أن يعيش عيشة هنية لأن سيترك العقل والعلم بحثا عن لقمة عيشه. وأنا من يملك مالا قد لا يحتاج إلى العلم فهو يستطيع أن يعيش ويشبع وينام بدونه.
فجلس يندب حظه وبيده الشهادة العليا التي نالها، ينظر بعين الحرقة للمستقبل المجهول الذي ينتظره، هو لا يعلم هذا المستقبل، أهو بعد شهر، بعد سنة بعد عشرة أعوام أم أنه في أخر العمر!؟
يمني نفسه بمستقبل لا يعلمه ولا أحد يعلمه، والجميع يلقنونه، فلتنظر للمستقبل وهم أيضا لا يعرفون أين مستقبله أو متى سيحين.
أنا والنجوم
أراد الكاتب هنا يتكلم بلسان الأنا واتخذ الأنا مثلا وعينة يكتب عنها لكنه يقصد الناس جميعا أو ثلة من البشر، أو فئة ما، أو طائفة، لكنه لا يتحدث عنه نفسه فقط بل أنه يشير إلى مجموعة أيا كانا عددها، لأن البشر يشتركون في كثير من الأشياء ويختلفون في قليل.
قد يتوحد المرء وينطوي لنفسه فلا يرى بشرا ولا يسمع لهم حسيسا، فيعتلي مقام مكوثه ليرى العالم من أوسع درجاته، ليطلق العنان لبصره حتى لا يرى إلى ما لا نهاية. ويطلق العنان لفكره حتى يسافر لأبعد الأمكنة وأقدم الأزمنة فعيش حياة أخرى التي يعيشها، وفي أرض أخرى غير التي يمكث فيها، فتتورد الأفكار تباعا والكلمات تنهمر أمطارا فلا يمسك منها إلا القليل القليل حتى إذا أمسك محبرته وأراد تدوين ما دار في خلده لن يجد إلا القليل القليل، فيكتب بعضا من الكثير المثير ويهرب عنه الأكثر.
ثم ينظر للسماء فوقه فيحتضن بصره النجوم والكواكب وكل الأجرام السماوية ، ليشعر أنه لاشيء أمام كل هذه الأجرام، وانه قزم صغير جدا لا يوجد ما يجعله يقارن نففسه بها. ثم تصغر هذه الكواكب حينما حدق في السماء فرأها أعظم ما يرى لتبدو هذه الأجرام أقزاما أمام السماء اللي منتهية، والتي لا تحدها حدود، وليس لها بدايات ولا نهايات.
ثم يعرج إلى الجنة التي عرضها كعرض السماوات والأرض لتبدو هي الأكبر من سابقيها. وهكذا رجع لينظر إلى الأصغر فالأصغر مبتعدا عن السماء وأجرامها، ليصل إلى الذرة ومكوناتها. كان يرى مرتفعا إلى الأكبر ثم الأكبر حتى هاله منظر الجنة، ثم إلى الأصغر فالأصغر حتى هاله منظر الذرة ومكوناتها فانبثق نور من قلبه ممتلأ إيمانا بالله الخالق العظيم.
فنسي نفسه الصغيرة، التي استصغرها وتذكر أهل الصوفية حينما ينسون أنفسهم وهم يهيمون حبا وتعظيما وخشوعا.
جواب على كتاب
كعادة الكاتب أن يصله البريد من متابعيه ومريديه، الذين سحروا بأدبه الراقي وإسلوبه الجميل، ولكنه لم يجدها سوي رسائل عادية، إلا رسالة أم لولدين فكانت رسالة شكوى وتعبير عن ألم وأمنية زوال ضيق.
تقول الأم في رسالتها ( سمعت بعيد الأم ولكنها لم تره وعرفت شقاء الأم بالولد ولكنها لم تعرف بر الولد بالوالدة وهي لا تشكو عقوق ولديها فهما صغيران ما بلغا سن العقوق ولكنها تشكو ضيق ذات اليد وفقد المسعد والمعين، وأنها تصبر النفس حينا ويتصرم أحيانا صبرها، وتسألني أتطلق الولدين من أسر المدرسة وتبعث بهما يتكسبان دريهمات تعينهما على العيش؟ وتسأل ماذا تجني منهما إن درسا وهي لا تملك ثمن كساء المدرسة ولا نفقاتها؟ فكيف يستطيعان أن يكملا الدرس ويتما التحصيل وهما بالثوب البالي والجيب الخالي)
فتلك اللحظة هي اللحظة التي تمنى الكاتب أن يكون غنيا ليعطي تلك الأم من مال الله الذي يؤتيه الناس، لكنه لا يملك سوى قلمه وقلبه.
فكان عليه أن يرد على الأم المهمومة برد يقتل همها ويبعد ألمها ويمطر على قلبها بردا وسلاما، فهذه هي مهمته ككاتب فهو ليس أي كاتب.
كان الرد عليها بقصة رجل ميسور ذا مال وغنى كان يفتح باب بيته مفتوحة وموئده ممدودة للقريب والغريب للضيف ولطالب العلم. فعندما مات الرجل ذهبت تركته لإفاء الديون كلها فلم يبق لورثته شيء، فتركوا كل شيء حتى الدار التي تربوا فيها وسكنوا في مساكن الفقراء ويأكلون من صحونهم، فلم يعرفهم الذين كانوا لا يفارقون بيت ابيهم، والذين كانوا يتنعمون من ماله. ربّبتهم أمهم فأحسنت تربيتهم، سهرت الليالي وصارعت المصائب وكانت تدفعهم للنجاح دفعا عظيما. فكانوا يذهبون للتعلم يمرون من طريق الموت كما سماه الكاتب لأن سورية في تلك الفترة كانت تحت الاستعمار وكانت تلك الفترة فترة الثورة فكانت الحرب طاحنة ونارها مسعّرة حارقة لا تبقي ولاتذر، لا تبقي صغيرا ولا كبير، لا رجل ولا امرأة.
فقد تعلم الأبناء الأربعة حتى صاروا الي ما صاروا إليه من النجاح والنبوغ، فأكبرهم هو الكاتب نفسه والثاني قاضيا والثالث أستاذا في الجامعة وهو أول من حمل لقب دكتور في الرياضيات في سورية والرابع مدرسا وداعية وأديبا.
فقد قصّ الكاتب القصة لهذه الأم تسلية لها وتهوينا عليها، حتى لا تسمح لنفسها بأن تدفع أولادها للعمل وترك العلم، فهي بذلك تقتل هممهم وتكسر مستقبلهم، فلن يكونوا سوي عمّال بسطاء وهم يستطيعون أن يصبحوا عظماء، لأن كثير من الناجحين تصنعهم المحن وتصقلهم المصائب.
فنصحها بأن لا يخجل الابن إن لم يجد الثوب الأنيق وعليه أن يرضى بقسمه من الدنيا كونه فقيرا وعليه أن يبذل كل الجهد ليصبح ذا مال بالحلال وأن يتعلم ويعمل ويقاتل الفقر والجوع.
فهو يقول أن في كل محلة أمهات مثل التي أرسلت له تعاني الفقر وألم الحاجة، وتقضي كل ليلة تفكر في ماذا تفعل بابنائها وكيف ترشدهم وكيف توفر لهم احتياجات الحياة، سواء في غياب آبائهم أو وجودهم الذي مثل عدمه. وأن في أسر الفقراء الكثير من النابغين لكن حالهم منع من تقدمهم في الحياة وإظهار مواهبهم وتنميتها لأن المجتمع المحيط لم يكون عونا لهم بل كان عونا عليهم. فتتبعوا الحاجة وسلكوا طريق الإجرام، ليصبح النابغون قابعين بين قضبان السجون دفعهم لهذا الحاجة الملحّة واللقمة المفقودة.
فإن ما ينفقه أثرياء المجتمع في ترفيه ابناءهم يكفي لإطعام عائلات فقيرة وتعليمها وصقل مواهبها، وإبعاد أبنائها عن السجون والمجون والدروب المنحرفة الضالة المضللة.
فعلى الأثرياء أن يزكوا ويتصدقوا ويؤتوا الفقراء من مال الله الذي آتاهم، فكل الأموال التي ينفقونها في الترف الزائد عن الحاجة يكفي لبناء المدارس والمستشفيات ومأوي الأيتام، وإطعام الفقراء.
من دموع القلب
استهل الكاتب مقاله بذكرى تجمعه وصديقه أنور العطار، حينما كانا يزوران قبريّ والديهما ثم يعودان لحضنيّ أمهما متأمليَن أن يعيشا معهما إلى الأبد، بعد عمر ما ماتتا وبقيا بلا أمّ تحضنهما، آمالهما ليست إلا أحلاما من ضرب المستحيل.
ثم عرّج في ذكر مخالفات الحياة وقواعدها لنا يعيش الإنسان من واقع مرير في موقف يجعل الإنساني أكثر مرارة وغضاضة من غيره، لأنه قرأ في الكتب أن يسلك الدرب المستقيم سيبلغ غايته ومناه فلم ير إلا الإلتواءآت لمن صدق ما قرأ.
وقالت الكتب كن فاضلا ذا أخلاق كريمة فهي السبيل، فوجد أهل الرذيلة هم المتسيدون وسيء الخلق مرفوعا.
وقالت الكتب الحق هم السيد، فرأى أن القوة هي السيد.
فهناك تزاحم بين كلا الطرفين كل منهما يود أن يصل إلى مبتغاه وبسرعة مزاحما الجميع بلا رحمة ولا عطف.
إن شغف الإنسان بالحياة وملذاتها قد ينسيه كل ثمين وغالي قد ذهب ورحل ولم يعد، لأن كل يوم بالحياة يصادف الإنسان ملذات تنسيه ما ذهب عنه ورحل حتى نفسه الأخير، إلا اللهم من عشق وأحب شيئا ثمينا وغاليا لن ينسيه شيء حبه وعشقه له.
فعرّج الكاتب في وصف حبه لأمه وفقده لها وأن كل شيء في الحياة لن ينسيه حبه لأمه وشوقه لها فهي الحضن الدافيء الذي لن يتكرر والمملكة العظيمة التي لن يجد مثلها والوطن الأمن الذين لم يأمن لغيره مهما ملأت الأوطان كل ملذات الحياة.
في الكتّاب
والقلم قد يجمح بيد الكاتب أحيانا كما يجمح الفرس بالفارس، فيمشي حيث يريد هو لا حيث يريد صاحبه.
هنا في مقدمة الموضوع ذكر الكاتب هذه المقولة الجميلة فهي الحال التي يتعرض لها معظم الكتّاب والشعراء معا.
عرّج الكاتب في هذا الموضوع مسافرا إلى ذكرياته القديمة حينما كان طفلا أو تلميذا فعاد إلى المدرسة وكيف كان التلميذ يخافها ولا يحبها ويتمنى في كل مرة يذهب إليها أن تكون مغلقة أو أن تحول بينهما الظروف دون الحضور. فهذه هي حالنا جميعا حينما نعوذ بالذاكرة للزمن الغابر يوم يرسلوننا للمدرسة. فكنّا نفرح كثيرا يوم الخميس والجمعة كما يفرح الكاتب هو الأخر.
فكان تجمع الطلاب في الكتاتيب مثلا، يكون تجمعا كبيرا ليضيق المكان بهم ويضيق التنفس حينما يكونون داخل غرفة مغلقة، لتنشر رائحة سيئة في الأمكنة.
فيقعدون للدرس من الصباح للمساء، وكل قد أتى بطعامه وشرابه معه، فحينما يجوعون أو يعطشون يأكلون ويشربون. ولكل منهم نصيب من عصى المعلم الطويلة، لابد وأن تجلد ظهر أحدهم.
ومن المناظر المألوفة التي لن تمحيها الأيام من الذاكرة رؤية أحد الطلاب يجره أهله إلى المدرسة جرا وهو يتمسك بكل شيء محاولا أن لا يذهب ومتمرغا بالتراب والوحل، ولكن مصيره أن يؤتى به إلى المدرسة إما راضيا أو باكيا،فهو يساق إليها كما يساق مجرم إلى قضبان المحكمة، فكيف يا ترى تأثير ذلك على الطالب؟
ثم أخذ يقارن وضع الطالب والمدرسة بين اليوم والأمس، فكان الطالب يعاني معاناة كبيرة فكان ينقصه الكثير وتعرقله الظروف، وتثقل عليه المثقلات، أما اليوم فالطالب يذهب بأبهى حلة، وحقيبة جميلة في ظهره مليئة بالكتب والدفاتر الجميلة المرتبة، ولابد من وجود صندوقا مليئا بالطعام في حقيبته. يذهب إلى المدرسة وقد لبس أنظف الثياب وأفضلها، فيتبع بقبلة حب ورضى ثم يؤخذ من باب بيتهم بحافلة لتوصله باب المدرسة، ليدخلها من بوابة مليئة بالورد والأطيار تغني مزقرقة ومغردة، والأرض من تحته مرصوفة بأجمل أنواع الرصف وربما قد تكون مفروشة، فيدخل الفصل الجميل المرتب المكيف ويقعد في مقعد يخصه وبطاولته لا يشاركه فيه أحد. والطلاب الصغار تعلمهم معلمات ملأن حبا وحنانا وعطفا، فكيف لا يود طفل اليوم أن يذهب إلى المدرسة!!؟
أما طالب الأمس فكل ما ذكرناه لا يعرف عنه شيئا وحقيقة وضعه هي ضد اليوم بكل التفاصيل.
فلا عجب أن ترى طفل اليوم يبكي شوقا للذهاب إلى المدرسة، وطفل الأمس يبكي خوفا منها، لأن شتّان بين الأثنين، الأول وجد متعة الحياة هناك والثاني وجد صعوبتها السيئة.
لكن كل هذا الفارق الكبير بين طالب اليوم والنعمة التي يعيشها وطالب الأمس والحرمان الذي لاقاه. طالب الأنس نشأ على حب الأسرة واحترامها واحترام المدرسة والمعلم واحترام الكبار والصغار. لكن جيل اليوم من الطلاب كثير منهم قد فقدوا الإحترام والحب، فبعضهم لا يعطي الأب مكانته وتقديره والمعلم أيضا وحتى الكبار في مجتمعه، لأسباب كثيرة.
-مشروع مقال
يقول الكاتب أنه إذا أحلّ العيد أغلق على نفسه الباب ليكون وحيدا حتى ينصرف إلى القراءة والكتابة، ثم يقضي باقي وقته مستأنسا مع أهله. وأنه قد وعد صديقا له بكتابة موضوع، ليتفرغ له أيام العيد حتى يبدع فيه ويصب فيه كل علمه ومعرفته وأدبه.
لكن ما أن أمسك القلم حتى جمح القلم ولم يكتب حرفا فيما أراد أن يكتب وهو الذي روض القلم ترويضا عظيما، فحينما يريد أن يكتب فقط يحط القلم على الورق ليخط الحروف والكلمات بلا توقف. لكنه هذه المرة خانه التعبير والقلم معا..
خرج الكاتب من مكانه وذهب ليلهو ويفتش في الأشياء عله يجد شيئا يكتب فيه. فوجدت أخاه وتكلم معه عن موضوع التعليم فاستمع له حتى ذكر دروس الكيمياء والحكمة، وأراد هنا بالحكمة الفيزياء، فكانرا يطلقون كلمة الحكمة على الفيزياء.
ثم أراد أن يوضح نقطة مهمة وهي كيف أن طالب العلم ينسى ما تعلمه في المدرسة بعد تخرجه وانخراطه في سوق العمل الا اللهم المادة التي ستكون تخصصه وسيعمل بها وعليها.
وهنا أبدى الكاتب رأيه فيماذا يجب على الطالب أن يتعلم في المدرسة أولا.
-قصة معلم
استنكر الكاتب صديقا له معلما كاتب وأديبا في اسلوبه الكتابي الذي بدأ بالإنحدار شيئآ فشيئا، فكان الجواب :دعني يا فلان فإن سراج حياتي يخبو وشمعتي تذوب وما إخالني الا ميتا عما قريب أو دائرا في الأسواق مجنونا.
فكان هذا الصديق معلما في مدرسة ابتدائية فصار نهاره نهار المجانين وليله ليل القتلى، يعود لبيته منتهيا و فلا ينام حتى يقرأ ما خطه طلابه في كراريسهم من حماقات حسب ادعائه ليزداد الما مع المه وهما مع همه. ثم بعد ذلك يلتقيه دفتر تحضير الدروس وسماه بالموت الأحمر والبلاء الأزرق. لينام بعدها نوم الخائفين المذعورين الهالكين.
هنا وصف لنا الكاتب حياة المعلم وما تلاقيه من مآسي وألام وصعاب ومطبات كثيرة، وخصوصا معلم المدارس الإبتدائية لأنه يعلم الأطفال الذين يستصعب عليه افهامهم وتلقينهم بالطريقة المناسبة ناهيك عن طريقة حضورهم وانصرافهم وسلوكهم المتذبذب الذي يجعل المعلم يفقد أعصابه وصبره وطاقته وعقله كله. فلا لوم ولا حرج إن رأينا المعلم مجنونا بعدما علمنا مأساته.
فهذه المأساة كانت السبب وراء إنحدار اسلوبه الكتابي وضعفه.
عيدي الذي فقدته
هنا في هذا الموضوع أناخ الكاتب مطاياه وحط رحله، في عرصات العيد ليتنفس هواءه ويدوس على أرضه متجملا بأزياءه ومتعطرا بروائحه. واصفا وذاكرا كل أحداثه ومزاياه وأحداثه.
يقول وذهبنا نبصر العيد ومشينا في الطرقات وإذا الوجوه باسمات الثغور منبسطات السمات فكأن أصحابها قد لبسوا مع الثياب البراقة الزاهية حلة من اللطف.
فحينما حل العيد نزلت البسمات وذهب الضيق والعبوس من وجوههم، حتى الأطفال قوبلوا اللطف بعدما كانوا يلاقون الكثير من التوبيخ. فيتلقون فوق الإبتسامة واللطف قطع نقدية تزيدهم فرحا وأنسة وسعادة وتشعرهم بلذة العيد وطعمه، ليشعر الطفل أو ليعيش حياة الأثرياء بالقطع المعدودة التي حصل عليها وهي التي لا تساوي شيئا مقارنة مع الأثرياء.
ليعرج المعيدون نحو الجامع ليصلوا صلاة العيد، لكن هذه الصلاة أشعرته بما لم يشعر من قبل، وصوت النشيد الذي يعلو الفضاء منتشرا فيه الذي تردده أفواه المعيدون الذين أظهروا الإسلام في عيدهم عيد الإسلام، أيقن الكاتب أن بهذا النشيد تردد صدى قوتهم أبان الفتوحات لتتداعي أمامهم الحصون وتتساقط الأسوار وتنفتح لهم الأبواب حتى فتحوا الدنيا.
دخل الجامع ليرى كل المسلمين اجتمعوا هناك في ثياب جديدة نظيفة تساوي الفقير بالغتي والعبد بالحر وبلغت كثرتهم عظم المسجد لتخلق العزة والقوة والفخر بالعدد.
ثم عرّج الكاتب بعيد طفولته الجميلة إلى موطن تجمع الأطفال بأزيائهم الجميلة البراقة التي بها استشعروا العيد وذاقوا ألذّ مذاقه، وركبوا عرباته المزينة المزركشة، وقفزوا كنا تقفز الارائم وترفرف الفراشات ويغنوا كما تغني الأطيار مزقزقة فرحين بالعيد الذين قد صبغوا صبغته الجميلة الساحرة.
ثم دار الزمان وأراد الكاتب أن يعيش العيد الذي عاشه أبان طفولته بعد سنوات عدة فلم يجد اليوم ما عاشه أفي الأمس وتغيرت الطفولة، وتبدلت الأطيار وتوقفت الفراشات ولم يعد للعيد الطعم الذي عهده، ولا اللون الذي كان يعرفه، فقد تغير كل شيء حتى الأزياء الساحرة لم تعد ساحرة كما كانت.
فيا ترى قد تغير العيد أم تغيرت الدنيا؟
الوحدة
(ما آلمني شيء في الحياة ما آلمتني الوحدة. كنت أشعر - كلما انفردت - بفراغ هائل في نفسي ، وأحس بأنها غريبة عني ثقيلة علي لا أطيق الانفراد بها ، فإذا انفردت بها أحسست أن بيني وبين الحياة صحارى قاحلة وبيداً ما لها من آخر ، بل كنت أرى العالم في كثير من الأحيان وحشاً فاغراً فاه لابتلاعي ، فأحاول الفرار ، ولكن أين المفر من نفسي التي بين جنبي ودنياي التي أعيش فيها ؟)
الوحدة مصدر ألم النفوس والأجساد وهي بيئة خصبة لنمو هواجس وكوابيس وأفكار سيئة قادرة على تحطيم الإنسان أيما تحطيم.
أمن الكاتب بعظم سيئاتها فلجأ إلى قتل الوحدة باستغلال وقت فراغه في لقاء صحبه، وقراءة كتبه وعمل الأعمال الحيوية التي هي ضرورية في حياته.
-أنا والقلم
بعدما توقف الكاتب عن النشر في مجلة الرسالة، جاءته رسائل عدة ومن جهات مختلفة، تسأله عن سبب توقفه عن النشر فيها فكان جوابه لهم في موضوع أنا والقلم الذي نشر سنة 1940.
ففي مقدمة الموضوع ذكر سبب تخلفه عن النشر بأن قريحته جفت فلم تمطر قطرة وذهنه كلّ ومات خياله، فلم يعد له في مضمار الأدب سبق.
فيتساءل عن نفسه وكأنه لا يدري ماذا حل به وهو الأديب الأريب وصاحب القلم الذي لا تستصعبه الكتابة ولا وقد حرز بأن يكون الزواج سببا لعزوفه أم بعض الألام والرزايا التي قد تحول بين الكاتب وقلمه.
الكتاب: من حديث النفس
الكاتب : الشيخ علي الطنطاوي
دار المنارة للنشر والتوزيع
قراءة وتلخيص:صالح الفارسي
مقدمة الكتاب
على الطنطاوي
قال الكاتب في مقدمته أن مواضيع هذا الكتاب ليست كلها لعلي الطنطاوي، بل هي لمجموعة كاتبين وقد نشرت مواضيعهم في الكتاب،
ثم عرج الكاتب في مقدمته لمسألة استبدال الرأي بالرأي والفكرة بالفكر والنظرة بالنظرة في العام الواحد للإنسان الواحد. فكل إنسان معرض لتقلبات الرأي والفكر والنظرة حسب تقلبات الأوضاع والحقائق والمعارف. لكن في المقابل هنالك أراء وأفكار لا يمكن أن تتبدل مهما تبدل كل شيء وستبقى ثابتة حتى الأبد. وقد أكد على ما قاله حينما كان يكتب أيام استعمار الفرنسيين لبلاده، كانت له أراء قوية ومضادة لهم وهي الواجب في الدفاع عن الوطن والذود عن حياضه وممتلكاته ومقدساته.
أنا
نشرت في 1937 م
-قال لي أهلي لقد جئت إلى هذه الدنيا عاريا بل أسنان ولا تحسن النطق ولا تعرف شيئاً....
يستغرب وهو في سن كبيرة، لأنه يجد نفسه بغير ما وصفوه فهو ذو أسنان وساتر الجسد وينطق ويأكل ويشرف ويعمل كل ما يعملوه ويتصف بكل ما يتصفون. إلا أنه يختلف عنهم في بعض الصفات الأخرى كالحب والكره وما يشبهها من أشياء حتمية الإختلاف بني البشر.
فكل ما ذكروه ربما لم يكد يرى نفسه به أبدا، فهو فقط يعرف نفسه وهو مكتمل الأشياء الجسدية كالأسنان، الكلام الأكل وغيرها من الحاجات الإنسانية الضرورية، فهو يذكر نفسه وهو ابن الرابعة، فهو يعتقد أنه ولد طفلا في الرابعة من عمره وليس وليدا رضيعا.
-فهو كثير ما يخيل إليه ذاك الطفل الذي يخبره عن طفولته، يراه في المرأة وفي الأشياء الخاطرة، ويسمع صوته، ويراه في قصص طفولته التي ترويها أمه له، مستغربا هل أنا المعمر ذاك الطفل الذي يحدثوني عنه كثيرا! ؟
-عرج الكاتب في هذا الموضوع إلى أحداث طفولته مبتدئا منذ الصغر ويمضي تباعا ذاكرا أحداث عمره الأول فالأخر ومقارنا بين الماضي والحاضر بإسلوب أدبي جميل.
-ثم عرج إلى ذكر إيام المدرسة كونه تلميذا مجتهذا نجيبا، فكان يقضي جل وقته في المذاكرة والجد والإجتهاد مضحيا بوقت الطفولة ومتعتها مثابرا ليجد ويجتهد، حتى ينال مبتغاه من النجاح و التفوق، غائصا في بحار العلوم والأداب مقتطفا من بساتينها ثمارا ناضجة، ومتعمقا في بحار كلها خير.
فنجح نجاحا ثم قالوا لهم مهلا مهلا مهلا، قال ماذا؟
قالوا لها لابد لك من شهادة عالية لأن المستقبل لا يضمن إلا بشهادة عالية!
قال ويحكم وهل يبنى المستقبل على الورق!؟
فانطلق يلعن ذاك المستقبل الذي أضاع طفولته، وشغله عنها ليترك كل ملذات الطفولة ومتعتها حتى يبني مستقبله المجهول، والذي لا يعلم إن كان سيقطف ثماره أم لا، لأنه كأنه يمشي في جسر يقطع العتمة التي تفقد البصر فيبدو كل شيء مجهولا وغير معلوم البتة.
خضع هو لأمر المستقبل خوفا منه ومن التشرد في صحاريه القاحلة وفضاءآته المشمسة فطفق يدرس الحقوق والآداب ويناطح ويناضل حتى نال شهادة الليسانس.
فنزل بعده إلى الحياة مفلسا جيبه خاو لا مال لديه، وفي هذا العصر أن من لا مال له كساع في البيداء بغير سلاح، وأن من أمتلك كل العلوم ولم يمتلك فلسا، لا يستطيع أن يعيش عيشة هنية لأن سيترك العقل والعلم بحثا عن لقمة عيشه. وأنا من يملك مالا قد لا يحتاج إلى العلم فهو يستطيع أن يعيش ويشبع وينام بدونه.
فجلس يندب حظه وبيده الشهادة العليا التي نالها، ينظر بعين الحرقة للمستقبل المجهول الذي ينتظره، هو لا يعلم هذا المستقبل، أهو بعد شهر، بعد سنة بعد عشرة أعوام أم أنه في أخر العمر!؟
يمني نفسه بمستقبل لا يعلمه ولا أحد يعلمه، والجميع يلقنونه، فلتنظر للمستقبل وهم أيضا لا يعرفون أين مستقبله أو متى سيحين.
أنا والنجوم
أراد الكاتب هنا يتكلم بلسان الأنا واتخذ الأنا مثلا وعينة يكتب عنها لكنه يقصد الناس جميعا أو ثلة من البشر، أو فئة ما، أو طائفة، لكنه لا يتحدث عنه نفسه فقط بل أنه يشير إلى مجموعة أيا كانا عددها، لأن البشر يشتركون في كثير من الأشياء ويختلفون في قليل.
قد يتوحد المرء وينطوي لنفسه فلا يرى بشرا ولا يسمع لهم حسيسا، فيعتلي مقام مكوثه ليرى العالم من أوسع درجاته، ليطلق العنان لبصره حتى لا يرى إلى ما لا نهاية. ويطلق العنان لفكره حتى يسافر لأبعد الأمكنة وأقدم الأزمنة فعيش حياة أخرى التي يعيشها، وفي أرض أخرى غير التي يمكث فيها، فتتورد الأفكار تباعا والكلمات تنهمر أمطارا فلا يمسك منها إلا القليل القليل حتى إذا أمسك محبرته وأراد تدوين ما دار في خلده لن يجد إلا القليل القليل، فيكتب بعضا من الكثير المثير ويهرب عنه الأكثر.
ثم ينظر للسماء فوقه فيحتضن بصره النجوم والكواكب وكل الأجرام السماوية ، ليشعر أنه لاشيء أمام كل هذه الأجرام، وانه قزم صغير جدا لا يوجد ما يجعله يقارن نففسه بها. ثم تصغر هذه الكواكب حينما حدق في السماء فرأها أعظم ما يرى لتبدو هذه الأجرام أقزاما أمام السماء اللي منتهية، والتي لا تحدها حدود، وليس لها بدايات ولا نهايات.
ثم يعرج إلى الجنة التي عرضها كعرض السماوات والأرض لتبدو هي الأكبر من سابقيها. وهكذا رجع لينظر إلى الأصغر فالأصغر مبتعدا عن السماء وأجرامها، ليصل إلى الذرة ومكوناتها. كان يرى مرتفعا إلى الأكبر ثم الأكبر حتى هاله منظر الجنة، ثم إلى الأصغر فالأصغر حتى هاله منظر الذرة ومكوناتها فانبثق نور من قلبه ممتلأ إيمانا بالله الخالق العظيم.
فنسي نفسه الصغيرة، التي استصغرها وتذكر أهل الصوفية حينما ينسون أنفسهم وهم يهيمون حبا وتعظيما وخشوعا.
جواب على كتاب
كعادة الكاتب أن يصله البريد من متابعيه ومريديه، الذين سحروا بأدبه الراقي وإسلوبه الجميل، ولكنه لم يجدها سوي رسائل عادية، إلا رسالة أم لولدين فكانت رسالة شكوى وتعبير عن ألم وأمنية زوال ضيق.
تقول الأم في رسالتها ( سمعت بعيد الأم ولكنها لم تره وعرفت شقاء الأم بالولد ولكنها لم تعرف بر الولد بالوالدة وهي لا تشكو عقوق ولديها فهما صغيران ما بلغا سن العقوق ولكنها تشكو ضيق ذات اليد وفقد المسعد والمعين، وأنها تصبر النفس حينا ويتصرم أحيانا صبرها، وتسألني أتطلق الولدين من أسر المدرسة وتبعث بهما يتكسبان دريهمات تعينهما على العيش؟ وتسأل ماذا تجني منهما إن درسا وهي لا تملك ثمن كساء المدرسة ولا نفقاتها؟ فكيف يستطيعان أن يكملا الدرس ويتما التحصيل وهما بالثوب البالي والجيب الخالي)
فتلك اللحظة هي اللحظة التي تمنى الكاتب أن يكون غنيا ليعطي تلك الأم من مال الله الذي يؤتيه الناس، لكنه لا يملك سوى قلمه وقلبه.
فكان عليه أن يرد على الأم المهمومة برد يقتل همها ويبعد ألمها ويمطر على قلبها بردا وسلاما، فهذه هي مهمته ككاتب فهو ليس أي كاتب.
كان الرد عليها بقصة رجل ميسور ذا مال وغنى كان يفتح باب بيته مفتوحة وموئده ممدودة للقريب والغريب للضيف ولطالب العلم. فعندما مات الرجل ذهبت تركته لإفاء الديون كلها فلم يبق لورثته شيء، فتركوا كل شيء حتى الدار التي تربوا فيها وسكنوا في مساكن الفقراء ويأكلون من صحونهم، فلم يعرفهم الذين كانوا لا يفارقون بيت ابيهم، والذين كانوا يتنعمون من ماله. ربّبتهم أمهم فأحسنت تربيتهم، سهرت الليالي وصارعت المصائب وكانت تدفعهم للنجاح دفعا عظيما. فكانوا يذهبون للتعلم يمرون من طريق الموت كما سماه الكاتب لأن سورية في تلك الفترة كانت تحت الاستعمار وكانت تلك الفترة فترة الثورة فكانت الحرب طاحنة ونارها مسعّرة حارقة لا تبقي ولاتذر، لا تبقي صغيرا ولا كبير، لا رجل ولا امرأة.
فقد تعلم الأبناء الأربعة حتى صاروا الي ما صاروا إليه من النجاح والنبوغ، فأكبرهم هو الكاتب نفسه والثاني قاضيا والثالث أستاذا في الجامعة وهو أول من حمل لقب دكتور في الرياضيات في سورية والرابع مدرسا وداعية وأديبا.
فقد قصّ الكاتب القصة لهذه الأم تسلية لها وتهوينا عليها، حتى لا تسمح لنفسها بأن تدفع أولادها للعمل وترك العلم، فهي بذلك تقتل هممهم وتكسر مستقبلهم، فلن يكونوا سوي عمّال بسطاء وهم يستطيعون أن يصبحوا عظماء، لأن كثير من الناجحين تصنعهم المحن وتصقلهم المصائب.
فنصحها بأن لا يخجل الابن إن لم يجد الثوب الأنيق وعليه أن يرضى بقسمه من الدنيا كونه فقيرا وعليه أن يبذل كل الجهد ليصبح ذا مال بالحلال وأن يتعلم ويعمل ويقاتل الفقر والجوع.
فهو يقول أن في كل محلة أمهات مثل التي أرسلت له تعاني الفقر وألم الحاجة، وتقضي كل ليلة تفكر في ماذا تفعل بابنائها وكيف ترشدهم وكيف توفر لهم احتياجات الحياة، سواء في غياب آبائهم أو وجودهم الذي مثل عدمه. وأن في أسر الفقراء الكثير من النابغين لكن حالهم منع من تقدمهم في الحياة وإظهار مواهبهم وتنميتها لأن المجتمع المحيط لم يكون عونا لهم بل كان عونا عليهم. فتتبعوا الحاجة وسلكوا طريق الإجرام، ليصبح النابغون قابعين بين قضبان السجون دفعهم لهذا الحاجة الملحّة واللقمة المفقودة.
فإن ما ينفقه أثرياء المجتمع في ترفيه ابناءهم يكفي لإطعام عائلات فقيرة وتعليمها وصقل مواهبها، وإبعاد أبنائها عن السجون والمجون والدروب المنحرفة الضالة المضللة.
فعلى الأثرياء أن يزكوا ويتصدقوا ويؤتوا الفقراء من مال الله الذي آتاهم، فكل الأموال التي ينفقونها في الترف الزائد عن الحاجة يكفي لبناء المدارس والمستشفيات ومأوي الأيتام، وإطعام الفقراء.
من دموع القلب
استهل الكاتب مقاله بذكرى تجمعه وصديقه أنور العطار، حينما كانا يزوران قبريّ والديهما ثم يعودان لحضنيّ أمهما متأمليَن أن يعيشا معهما إلى الأبد، بعد عمر ما ماتتا وبقيا بلا أمّ تحضنهما، آمالهما ليست إلا أحلاما من ضرب المستحيل.
ثم عرّج في ذكر مخالفات الحياة وقواعدها لنا يعيش الإنسان من واقع مرير في موقف يجعل الإنساني أكثر مرارة وغضاضة من غيره، لأنه قرأ في الكتب أن يسلك الدرب المستقيم سيبلغ غايته ومناه فلم ير إلا الإلتواءآت لمن صدق ما قرأ.
وقالت الكتب كن فاضلا ذا أخلاق كريمة فهي السبيل، فوجد أهل الرذيلة هم المتسيدون وسيء الخلق مرفوعا.
وقالت الكتب الحق هم السيد، فرأى أن القوة هي السيد.
فهناك تزاحم بين كلا الطرفين كل منهما يود أن يصل إلى مبتغاه وبسرعة مزاحما الجميع بلا رحمة ولا عطف.
إن شغف الإنسان بالحياة وملذاتها قد ينسيه كل ثمين وغالي قد ذهب ورحل ولم يعد، لأن كل يوم بالحياة يصادف الإنسان ملذات تنسيه ما ذهب عنه ورحل حتى نفسه الأخير، إلا اللهم من عشق وأحب شيئا ثمينا وغاليا لن ينسيه شيء حبه وعشقه له.
فعرّج الكاتب في وصف حبه لأمه وفقده لها وأن كل شيء في الحياة لن ينسيه حبه لأمه وشوقه لها فهي الحضن الدافيء الذي لن يتكرر والمملكة العظيمة التي لن يجد مثلها والوطن الأمن الذين لم يأمن لغيره مهما ملأت الأوطان كل ملذات الحياة.
في الكتّاب
والقلم قد يجمح بيد الكاتب أحيانا كما يجمح الفرس بالفارس، فيمشي حيث يريد هو لا حيث يريد صاحبه.
هنا في مقدمة الموضوع ذكر الكاتب هذه المقولة الجميلة فهي الحال التي يتعرض لها معظم الكتّاب والشعراء معا.
عرّج الكاتب في هذا الموضوع مسافرا إلى ذكرياته القديمة حينما كان طفلا أو تلميذا فعاد إلى المدرسة وكيف كان التلميذ يخافها ولا يحبها ويتمنى في كل مرة يذهب إليها أن تكون مغلقة أو أن تحول بينهما الظروف دون الحضور. فهذه هي حالنا جميعا حينما نعوذ بالذاكرة للزمن الغابر يوم يرسلوننا للمدرسة. فكنّا نفرح كثيرا يوم الخميس والجمعة كما يفرح الكاتب هو الأخر.
فكان تجمع الطلاب في الكتاتيب مثلا، يكون تجمعا كبيرا ليضيق المكان بهم ويضيق التنفس حينما يكونون داخل غرفة مغلقة، لتنشر رائحة سيئة في الأمكنة.
فيقعدون للدرس من الصباح للمساء، وكل قد أتى بطعامه وشرابه معه، فحينما يجوعون أو يعطشون يأكلون ويشربون. ولكل منهم نصيب من عصى المعلم الطويلة، لابد وأن تجلد ظهر أحدهم.
ومن المناظر المألوفة التي لن تمحيها الأيام من الذاكرة رؤية أحد الطلاب يجره أهله إلى المدرسة جرا وهو يتمسك بكل شيء محاولا أن لا يذهب ومتمرغا بالتراب والوحل، ولكن مصيره أن يؤتى به إلى المدرسة إما راضيا أو باكيا،فهو يساق إليها كما يساق مجرم إلى قضبان المحكمة، فكيف يا ترى تأثير ذلك على الطالب؟
ثم أخذ يقارن وضع الطالب والمدرسة بين اليوم والأمس، فكان الطالب يعاني معاناة كبيرة فكان ينقصه الكثير وتعرقله الظروف، وتثقل عليه المثقلات، أما اليوم فالطالب يذهب بأبهى حلة، وحقيبة جميلة في ظهره مليئة بالكتب والدفاتر الجميلة المرتبة، ولابد من وجود صندوقا مليئا بالطعام في حقيبته. يذهب إلى المدرسة وقد لبس أنظف الثياب وأفضلها، فيتبع بقبلة حب ورضى ثم يؤخذ من باب بيتهم بحافلة لتوصله باب المدرسة، ليدخلها من بوابة مليئة بالورد والأطيار تغني مزقرقة ومغردة، والأرض من تحته مرصوفة بأجمل أنواع الرصف وربما قد تكون مفروشة، فيدخل الفصل الجميل المرتب المكيف ويقعد في مقعد يخصه وبطاولته لا يشاركه فيه أحد. والطلاب الصغار تعلمهم معلمات ملأن حبا وحنانا وعطفا، فكيف لا يود طفل اليوم أن يذهب إلى المدرسة!!؟
أما طالب الأمس فكل ما ذكرناه لا يعرف عنه شيئا وحقيقة وضعه هي ضد اليوم بكل التفاصيل.
فلا عجب أن ترى طفل اليوم يبكي شوقا للذهاب إلى المدرسة، وطفل الأمس يبكي خوفا منها، لأن شتّان بين الأثنين، الأول وجد متعة الحياة هناك والثاني وجد صعوبتها السيئة.
لكن كل هذا الفارق الكبير بين طالب اليوم والنعمة التي يعيشها وطالب الأمس والحرمان الذي لاقاه. طالب الأنس نشأ على حب الأسرة واحترامها واحترام المدرسة والمعلم واحترام الكبار والصغار. لكن جيل اليوم من الطلاب كثير منهم قد فقدوا الإحترام والحب، فبعضهم لا يعطي الأب مكانته وتقديره والمعلم أيضا وحتى الكبار في مجتمعه، لأسباب كثيرة.
-مشروع مقال
يقول الكاتب أنه إذا أحلّ العيد أغلق على نفسه الباب ليكون وحيدا حتى ينصرف إلى القراءة والكتابة، ثم يقضي باقي وقته مستأنسا مع أهله. وأنه قد وعد صديقا له بكتابة موضوع، ليتفرغ له أيام العيد حتى يبدع فيه ويصب فيه كل علمه ومعرفته وأدبه.
لكن ما أن أمسك القلم حتى جمح القلم ولم يكتب حرفا فيما أراد أن يكتب وهو الذي روض القلم ترويضا عظيما، فحينما يريد أن يكتب فقط يحط القلم على الورق ليخط الحروف والكلمات بلا توقف. لكنه هذه المرة خانه التعبير والقلم معا..
خرج الكاتب من مكانه وذهب ليلهو ويفتش في الأشياء عله يجد شيئا يكتب فيه. فوجدت أخاه وتكلم معه عن موضوع التعليم فاستمع له حتى ذكر دروس الكيمياء والحكمة، وأراد هنا بالحكمة الفيزياء، فكانرا يطلقون كلمة الحكمة على الفيزياء.
ثم أراد أن يوضح نقطة مهمة وهي كيف أن طالب العلم ينسى ما تعلمه في المدرسة بعد تخرجه وانخراطه في سوق العمل الا اللهم المادة التي ستكون تخصصه وسيعمل بها وعليها.
وهنا أبدى الكاتب رأيه فيماذا يجب على الطالب أن يتعلم في المدرسة أولا.
-قصة معلم
استنكر الكاتب صديقا له معلما كاتب وأديبا في اسلوبه الكتابي الذي بدأ بالإنحدار شيئآ فشيئا، فكان الجواب :دعني يا فلان فإن سراج حياتي يخبو وشمعتي تذوب وما إخالني الا ميتا عما قريب أو دائرا في الأسواق مجنونا.
فكان هذا الصديق معلما في مدرسة ابتدائية فصار نهاره نهار المجانين وليله ليل القتلى، يعود لبيته منتهيا و فلا ينام حتى يقرأ ما خطه طلابه في كراريسهم من حماقات حسب ادعائه ليزداد الما مع المه وهما مع همه. ثم بعد ذلك يلتقيه دفتر تحضير الدروس وسماه بالموت الأحمر والبلاء الأزرق. لينام بعدها نوم الخائفين المذعورين الهالكين.
هنا وصف لنا الكاتب حياة المعلم وما تلاقيه من مآسي وألام وصعاب ومطبات كثيرة، وخصوصا معلم المدارس الإبتدائية لأنه يعلم الأطفال الذين يستصعب عليه افهامهم وتلقينهم بالطريقة المناسبة ناهيك عن طريقة حضورهم وانصرافهم وسلوكهم المتذبذب الذي يجعل المعلم يفقد أعصابه وصبره وطاقته وعقله كله. فلا لوم ولا حرج إن رأينا المعلم مجنونا بعدما علمنا مأساته.
فهذه المأساة كانت السبب وراء إنحدار اسلوبه الكتابي وضعفه.
عيدي الذي فقدته
هنا في هذا الموضوع أناخ الكاتب مطاياه وحط رحله، في عرصات العيد ليتنفس هواءه ويدوس على أرضه متجملا بأزياءه ومتعطرا بروائحه. واصفا وذاكرا كل أحداثه ومزاياه وأحداثه.
يقول وذهبنا نبصر العيد ومشينا في الطرقات وإذا الوجوه باسمات الثغور منبسطات السمات فكأن أصحابها قد لبسوا مع الثياب البراقة الزاهية حلة من اللطف.
فحينما حل العيد نزلت البسمات وذهب الضيق والعبوس من وجوههم، حتى الأطفال قوبلوا اللطف بعدما كانوا يلاقون الكثير من التوبيخ. فيتلقون فوق الإبتسامة واللطف قطع نقدية تزيدهم فرحا وأنسة وسعادة وتشعرهم بلذة العيد وطعمه، ليشعر الطفل أو ليعيش حياة الأثرياء بالقطع المعدودة التي حصل عليها وهي التي لا تساوي شيئا مقارنة مع الأثرياء.
ليعرج المعيدون نحو الجامع ليصلوا صلاة العيد، لكن هذه الصلاة أشعرته بما لم يشعر من قبل، وصوت النشيد الذي يعلو الفضاء منتشرا فيه الذي تردده أفواه المعيدون الذين أظهروا الإسلام في عيدهم عيد الإسلام، أيقن الكاتب أن بهذا النشيد تردد صدى قوتهم أبان الفتوحات لتتداعي أمامهم الحصون وتتساقط الأسوار وتنفتح لهم الأبواب حتى فتحوا الدنيا.
دخل الجامع ليرى كل المسلمين اجتمعوا هناك في ثياب جديدة نظيفة تساوي الفقير بالغتي والعبد بالحر وبلغت كثرتهم عظم المسجد لتخلق العزة والقوة والفخر بالعدد.
ثم عرّج الكاتب بعيد طفولته الجميلة إلى موطن تجمع الأطفال بأزيائهم الجميلة البراقة التي بها استشعروا العيد وذاقوا ألذّ مذاقه، وركبوا عرباته المزينة المزركشة، وقفزوا كنا تقفز الارائم وترفرف الفراشات ويغنوا كما تغني الأطيار مزقزقة فرحين بالعيد الذين قد صبغوا صبغته الجميلة الساحرة.
ثم دار الزمان وأراد الكاتب أن يعيش العيد الذي عاشه أبان طفولته بعد سنوات عدة فلم يجد اليوم ما عاشه أفي الأمس وتغيرت الطفولة، وتبدلت الأطيار وتوقفت الفراشات ولم يعد للعيد الطعم الذي عهده، ولا اللون الذي كان يعرفه، فقد تغير كل شيء حتى الأزياء الساحرة لم تعد ساحرة كما كانت.
فيا ترى قد تغير العيد أم تغيرت الدنيا؟
الوحدة
(ما آلمني شيء في الحياة ما آلمتني الوحدة. كنت أشعر - كلما انفردت - بفراغ هائل في نفسي ، وأحس بأنها غريبة عني ثقيلة علي لا أطيق الانفراد بها ، فإذا انفردت بها أحسست أن بيني وبين الحياة صحارى قاحلة وبيداً ما لها من آخر ، بل كنت أرى العالم في كثير من الأحيان وحشاً فاغراً فاه لابتلاعي ، فأحاول الفرار ، ولكن أين المفر من نفسي التي بين جنبي ودنياي التي أعيش فيها ؟)
الوحدة مصدر ألم النفوس والأجساد وهي بيئة خصبة لنمو هواجس وكوابيس وأفكار سيئة قادرة على تحطيم الإنسان أيما تحطيم.
أمن الكاتب بعظم سيئاتها فلجأ إلى قتل الوحدة باستغلال وقت فراغه في لقاء صحبه، وقراءة كتبه وعمل الأعمال الحيوية التي هي ضرورية في حياته.
-أنا والقلم
بعدما توقف الكاتب عن النشر في مجلة الرسالة، جاءته رسائل عدة ومن جهات مختلفة، تسأله عن سبب توقفه عن النشر فيها فكان جوابه لهم في موضوع أنا والقلم الذي نشر سنة 1940.
ففي مقدمة الموضوع ذكر سبب تخلفه عن النشر بأن قريحته جفت فلم تمطر قطرة وذهنه كلّ ومات خياله، فلم يعد له في مضمار الأدب سبق.
فيتساءل عن نفسه وكأنه لا يدري ماذا حل به وهو الأديب الأريب وصاحب القلم الذي لا تستصعبه الكتابة ولا وقد حرز بأن يكون الزواج سببا لعزوفه أم بعض الألام والرزايا التي قد تحول بين الكاتب وقلمه.