كلما أفتح الفيس بوك تصادفني منشورات خميس الغافري، راثيا أخيه الراحل الذي كُسرت قلوب أحبته برحيله، وتألمت كبادهم، وبكت كل جوارحهم، فتذكرت الخنساء حينما ترثي صخرا ويكأنها لم تحب سوى صخر، فصخر كان حبها الذي لم يمت حتى يولد ثانية بشوق عظيم حين رحيله. وتأخذني الذكريات لخطبة الملبب بن عوف حينما مات ابن للملك سلامة ذا فائش حينما سقط من على ظهر الخيل، فجاءته وفود العرب معزية له وهو على حالى يرثى لها من الألم والحزن والكمد حتى خطب فيه الملبب بخطبة رائعة تخفف عنه وطأة الفقد والحزن. وقبل الخنساء والملك، تعرج بي الذكريات حينما فقدت أخويّ ( اليقظان وناصر) في حادث مروّع تقشعر منه الأعين قبل القلوب والأجساد قبل الأفئدة، فلم يبق للعاقل عقل، وللحكيم حكمة، ولذي صاحب الرأي رأي ومشورة. فالمنظر رهيب والكارثة عظمى بعظم الحادث ومصيبة الفقد، فقد لبثت سنة لم يفارقني حزن، ولم تنقطع دمعة. أصبحت الليالي طويلة، فسامرت فيها السهاد والألم والكمد، فاقدا حبيبا لن يعود. طفقت أرقب رقم أحدهما دائما وأبدا، حتى أنني عمدت أرسل له رسالة الجمعة لعل وعسى أن يطرق باب قلبي رد منه، كنت أعلم بعقلي أنه لن يرد علي، وكيف لميت أن يرد على حي!!!؟ لكن من يخبر قلبي أنه مستحيل أن يأتي رد من رقمِ هاتفِِ صاحبه رحل رحيل أبدي. قعدت القلوب منتظرة عند الباب لعل الغائب سيعود، لعل أنه لم يمت ، لعله رحل دون إشعار، لأرض أخرى ثم سيعود ليحي القلوب التي ذبلت برحيله، وقحلت بواديها بغيابه، وجفت زروعها.
كلما أرى منشورات خميس الغافري راثيا أخيه، ينتابني شعور غريب، يعود بي للأيام الخوالي ، فيذكرني بأيام عشتها فاقدا أحبة رحلوا دون أن يطرقوا بابي مودعين، فحين أصبحتُ أصبحتُ وقد رحلوا. رحلوا دون أن يشعروا القلوب برحيلهم، باغتهم الموت وهم في ريعان الشباب وريعان الطفولة ، رحلوا رحيلا جر بأذياله قلوبا متيمة لا تقوى على رحيل حبيب وفقده.
كلما أرى منشورات خميس الغافري راثيا أخيه تذكرني تلك بالزيات حينما فقد ابنه ورثاه بكلمات تدمي القلب وتكسر الفؤاد، وتبكي الجوارح كلها، كلمات شفراتها حادة، تقطع الحديد والجنادل، فكيف بقلب رهيف!؟ تذكرني بكل اب فقد ابنه، وكل ابن فقد أبيه أو أمه أو أخيه، بكل حبيب فقد حبيبه.
كان الله في عون كل الأحياء الذين نهشت قلوبهم مخالب الفرقى، وحطمت أضلاعهم أنياب البعد، وهزّ أجسادهم عاصفة الغياب والرحيل القاتل. ليت القلب ينسى صباحا ما تفعله الليالي، وينسى ليلا ما يحدث نهارا، حتى لا يعرف الألم للقلوب دربا، ولا الحزن للصدور طريقا.
يقال أن أكثر أمر ظاهر في حياة الإنسان منذ الأزل هو الخطأ، لأن شدة ظهوره للعقول أو العيان أوالجوارح كلها، أشد من كل أضداده، فيبدو ظاهرا شاذا. ليتعامل الناس معه بطرق وأساليب مختلفة ومتباينة لكنها جلها تتفق أنه أمر سيء للغاية، لاسيما وإن كانت صناعة الخطأ مقصودة من طرف ما والمراد بها مهاجمة طرف أخر بغض النظر عن الأسباب والمسببات والطرائق الممهدة لذلك. فالتعامل مع الخطأ غالبا ما يكون سيئا لاسيما حينما تتم نسبته إلى المخطيء، وهنا نقطة مهمة جدا تجعل الفئات تتصارع من أجل تغيير مفهوم أو إثباته أو صرفه، أو محوه أو تصحيح مساره.
يذكر أن شخصا أخطأ في أمر ما واشتهر أمره حتى سمعت به العامة كلها، فتداوله الجميع كخبر يقال ويحلل ويحكى في الجلسات والنوادي وكل أنواع التجمعات، فاشتهر خطأؤه واشتهر هو باشتهار الخطأ. عادة يقوم الناس بوضع المخطيء بين قضبان الإتهام ويقعد الجميع في كرسي القاضي لتصبح محكمة على متهم واحد والقضاة كثيرون، ثمة محام خجول، قد يغلبه الخجل ليتزيا بزي المحاماة. تطرق مطرقة المحكمة للبدأ في المحاكمة ولإطلاق الحكم والنطق به، كل الحضور قضاة فيتبادلون الموضوع دراسة ومشورة. قد يتفق الجميع أن المتهم مخطيء وهو معترف بالخطأ، لكن القضاة لا يشبعهم الحكم، بل يتعدون إلى ما هو أبعد من ذلك.
الأمر الذي قد يشغل القضاة والمحكمة كلها هو أنه لابد من مرجعية ينسب إليها الخطأ وعادة هي نفسها التي ينتسب إليها المخطيء. قديما كان الواحد حينما يخطأ يحمّل خطيئته القبيلة كلها، رغم أن القبيلة لا ناقة لها ولا جمل في الخطيئة، وإنما هو تهور وقلة حيلة وضعف قوة ونقصان عقل ودراية، كل هذا حمّله على إرتكاب الخطأ، فقامت الأطراف بنسب الخطيئة للقبيلة، وعلى القبيلة تحملها ودفع ثمنها.
فمثلا أتهم عالم دين ما بفعل خطأ، سيقوم البعض بنسب هذا الخطأ للدين الذي يتبعه، وأخرون سينسبونه إلى المذهب أو التيار الذي يتبعه، طيب ما ذنب المرجعية التي ينتسب لها هذا العالم حتى ينسب الخطأ لها!!!؟
كمثل قام ملتحي بإرتكاب خطأ ما، سيقوم الكثيرون بنسب الخطأ للملتحين كلهم، من أكثرهم استقامة حتى أضعفهم!!!!!!!!!؟
وكمثل حين يرتكب شخص ما خطأ وهو في بلد أخر ، سينسب الخطأ للبلد أو الوطن الذي ينتسب أليه!!!!!
لا يعلم هولاء الناس أن الناس يتباينون في كل شيء في الحياة ويختلفون، حتى في الأذواق والتوجهات، فالصحابة مثلا أكثر الناس تطبيقا لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم يلازمونه كل أوقاتهم، سنجد فيهم الكثير من الإختلاف والتفاوت مما يجعلهم مختلفين ولابد من وجود الخطأ في أفعال أحدهم مثلا، وهذا الخطأ شيء فردي شخصي لا جماعي فلا يصح أن ينسب الخطأ لجماعة الصحابة ، أو لصحابة الرسول . والوطن يعيش فيه الكثير من الناس الذين يختلفون في كل شيء حتى في درجة الوطنية وحب الوطن والإلتزام بأنظمته وقوانينه، فمنهم من يكون في الدرجة العظمى، والأخر في أدنى درجة، فحينما يخطيء أحدهم فلا يجوز أن ينسب الخطأ للوطن كله!!!!.
وكمثل الشخص الذي يخطأ سواء كان ذكرا أم أنثى، لا يصح لنا أن ننسب الخطأ للأسرة كلها، لأن المخطيء لا يمثل إلا نفسه ولا يتحكم إلا في أمره ولا يترجم إلا ما يحس به، ولا يقوم إلا بما تملي عليه نفسه.
فليس من سبب يجعلنا أن ننسب الأخطاء للمرجعيات أو التيارات التي ينتسب إليها المخطيء، لأنها لا تتحمل تصرفاته. فهو شخص عليه ما كسب وعليه ما أكتسب، ويقوم بترجمة ما يجول بخاطره لأفعال وأحداث وردات فعل. وليس للجماعة سلطة في مشاعر وأفعال وأفكار الفرد، ربما تستطيع أن تعاقبه بعد الفعل للمضرة التي فعلها والجرم الذي ارتكبه. فالله سبحانه وتعالى يحاسب الإنسان وحيدا، ولا يحاسب غيره على جرمه ولا يحاسبه على جرم غيره. فعلامنا نزج بالأخرين وننسب إليهم أخطاء الواحد منهم!!؟؟
إذ من الخطأ أن ننسب الخطأ إلى غير المخطيء، لأن في ذلك تداعيات كثيرة، وعواقب لا تحمد كالتي تحصل الأن في هذه الحياة من تباغض وتراشق وتصادم بين الأطراف بسبب خطأ واحد قام به مخطيء واحد ممثلا نفسه لا غيره. فعلينا أن ننشر ثقافة أن المخطيء هو المجرم فقط لا شيعته التي لم تأمره بالجرم، ولا أسرته التي لم تشترك معه، بل تحاول أن تصلح شأنه، حتى لا نجحف حقوق الأخرين، ولا نظلمهم، إصلاحا للمجتمع والحياة.